السلطنة تحتفي بالذكرى الخامسة لإبحار "جوهرة مسقط": الأمجاد العمانية تتلألأ في سماء التراث الإنساني

الرِّحلة انطلقت في فبراير 2010.. وأحدثت تأثيرا ثقافيا عابراللقارات

مسقط- العُمانيَّة

تُحيي وزارة التراث والثقافة، اليوم، الذكرى الخامسة لإبحار السفينة الشراعية "جوهرة مسقط"إلى سنغافورة، في حفل بالنادي الدبلوماسي؛ ابتهاجا بهذه المناسبة؛ وذلك تَحْت رعاية صاحب السمو السيد فاتك بن فهر بنتيمور آل سعيد أمين عام وزارة التراث والثقافة، وبحضور عدد من أصحاب السمو والمعالي والسعادة والمهتمينومسؤولين من السلطنة وسنغافورة.

فعَلَى صَوْت اليامال والبحارة العمانيين، كانت قد أبحرت "جوهرةمسقط" من السلطنة في فبراير 2010، عابرة البحار والمحيط الهندي، حاملة معها رسالة السلام والمحبة والوئام فيطريقها إلى سنغافورة. وعلى ذلك الصوت الذي لا يزال عالقا في الأذهان، تأتي الذكرى الخامسة لإبحار السفينة مناسبةليس لاستعادة الذكريات فقط، وإنما أيضا للنظر بإكبار وإعجاب إلى المشروع الذي سجَّل نجاحا كبيرا، ولاقى صدى محلياودوليا؛ باعتباره أحد المشاريع الحضارية التي تبنتها السلطنة في العهد الزاهر لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوسبن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- من أجل إرساء المحبة والتواصل والسلام بين الأمم والشعوب وإثراء الأبحاثالتاريخية والثقافية والعلمية.

رسالة سامية

تلك الرسالة والرغبة في نشرها في كل مكان، جعلتْ عُمان تصنع من فكرة سفينة غارقة منذ قرون، مشروعا للتواصل بينهاوبين دول عدة مرت بها السفينة "جوهرة مسقط" في طريقها إلى سنغافورة،وفي كل مكان كانت تتوقف فيه، كانت تتقاطر حبا وتنثر ورود المحبة والوئام، في إشارة واضحة على الدور المماثل الذي كان يقوم به البحارة العمانيونخلال فترات التاريخ العريق، يوم كان البحرفي قبضة يدهم والتجارة مهنتهم الأولى.

ويُمثل الاحتفاء بالذكرى الخامسة للسفينة الشراعية "جوهرة مسقط" استلهام تاريخ عمان البحري المجيد، وتسليط الضوء على الاهتمام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -أبقاه الله- المستمربإحياء الأمجادالبحرية العمانية وتراث الاجداد البحري، والدورالذيأدَّاه العمانيون على مدى فترات التاريخ المتعاقبة في التبادل التجاريوالثقافي والحضاري مع شعوب وأمم العالم، ‏ناشرين القيم السمحة والدين الاسلامي الحنيف بحسن الأخلاق والمعاملة الطيبة.وجاءت رحلة السفينة "صحار" عام 1981 إلى الصين مترسمة الطريق البحري الذي سلكته السفن العمانية القديمةالى تلك البقاع البعيدة، تأكيدا لذلك الحرص والاهتمام الساميين على إحياء تاريخ عمان البحري المجيد واستمرارا للعلاقاتالتجارية مع الصين وكتعبير عن أهميتها.

تاريخ مجيد

وتخليدا للتاريخ البحري المجيد لعمان والدور الريادي الذي مارسته السلطنة في مسيرة التواصل الإنساني بين الشرق والغرب، جاءت الأوامر السامية لجلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- بإبحار القطعة البحرية السلطانية "شبابعمان" عام1986في أول رحلة لها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، للمشاركة في احتفالاتها بالعيد المئوي لتمثال الحريةفي نيويورك، مستعيدة ذكرى رحلة السفينة العمانية "سلطانة" إلى ميناء نيويورك عام 1840، كما كانت الالتفاتة السامية الكريمة لحضرة جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -أعزَّه الله-بتبني السلطنة عام1990للدعوة العالمية التي أطلقتها منظمة التربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" لدراسة طريق الحرير والتجارة القديمة، بتخصيص جلالته لليخت السلطاني "فلك السلامة"مع كل طاقمه لتستخدمه اليونسكو لهذه الرحلة؛ تأكيدا للدورالحضاري للسلطنة في طرق التجارة والملاحة الدولية.

وفي هذا الإطار، تمَّ استحداث جائزة السلطان قابوس للإبحار الشراعي والتي تُشرف عليها وزارة الدفاع -مُمثلة بالبحرية السلطانية العمانية- لتكون بمثابة دعم للتدريب على الإبحار الشراعي، وتعمل على تعزيز أواصر الصداقة والمحبة بين أطقم السفن التيتشارك في مختلف سباقات الإبحار الشراعي العالمي.

وانطلاقاً من هذا المجد البحري العريق وفي إطار سعي السلطنة الدؤوب والمتصل لإحياء تراث الأجداد البحري بأسلوبحضاري، يقوم البحارة العمانيون على متن السفينة "شباب عمان 2"حاليا بقيادة سفينتهم إلى موانئ العالم؛ مستلهمينفي ذلك التقاليد البحرية العمانية الرائدة التي يعود تاريخها إلى ما قبل أربعة آلاف عام ولتسهم في توطيد أواصر المحبةوالسلام والتعاون بين شعوب العالم.

جوهرة مسقط

وكانتْ السفينة قد حظيتْ باسم "جوهرة مسقط" الذي أطلقه عليها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيدالمعظم -حفظه الله ورعاه- إذ شيدت السفينة الشراعية في السلطنة على ساحل قنتب بمدينة مسقط العامرة، وتماستلهامتصميمهاوبنائها من حطام سفينة عربية يعود تاريخها إلى القرن التاسع الميلادي، ويرجح علماء الآثار البحرية أنها غرقتعندما كانت في طريق عودتها من الصين إلى شبه الجزيرة العربية، وتم اكتشافها في المياه الإقليمية الإندونيسية، قربجزيرة البيلتانجفي العام 1998، معحمولتها التي شملت أكثر من 60 الف قطعة من الخزف الصيني والعملاتالذهبية والفضية والبهارات وبضائع أخرى، وتعرف الآن باسم "كنوز سلالة إمبراطورية تانج الصينية".. فجاءت "جوهرةمسقط"إحياء لتلك الذكرى وتكريما لأولئك البحارة البواسل.

وقدمت "جوهرة مسقط" كهدية من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -أعزَّه الله- إلى الشعبالسنغافوريالصديق تقديرا لعلاقات التعاون الإيجابية القائمة بين البلدين، ودور سنغافورة ليس فقط على خطوط التجارةالبحرية وطرق الحرير التاريخية،وإنما كذلك لكونها الدولة التي كان لها السبق في اقتناءالكنوز النفيسة التي اكتشفتضمن حطام السفينة الأم، وصاحبةالمبادرة في توثيق ذلك الاكتشاف وإبرازه.

وفي المتحف البحري العلمي في جزيرة سنتوسا في سنغافورة تقف السفينة منذ الخامس عشر من أكتوبر 2011 بكلشموخ وأنفة، وبالكثير من التاريخ الذي رسمته لنفسها وخلدته، ليتسنى للجميع زيارتها ومشاهدتها؛ حيث يحكي المتحفقصصطريق الحرير، ويعمل على إثراء الأبحاث التاريخية والثقافية والعلمية.

وجسَّدتْ رحلة السفينة "جوهرة مسقط"رمزا شاهدا على الصلات التاريخية والصداقة الموغلة في القدم بين عمان وشعوبالدول المطلة على المحيط الهندي،كما أكدت على تواصل السلطنة وتفاعلها الإيجابي مع مختلف الحضاراتوالثقافات، وهي بذلك جاءت في سياق التاريخ العماني العريق وسجله المشرف فضلا عن الاحتفاء بإرث حضارييفخر به كل عماني.ويشكل مشروع "جوهرة مسقط" توثيقا مهنيا وعلميا وثقافيا لتاريخ الإبحار العريق وموروثاتهالشعبية والحضارية الجميلة على طرق الحرير والتوابل.

وتعودُ قصة كنز "التانج" الرائع الذي عثر عليه قرابة جزيرة بليتانج إلى قيام إحدى الشركات الألمانية في العام 1998 -بإذن من الحكومة الإندونيسية- باستخراجبقايا سفينة عربية تعود للقرن التاسع للميلاد؛ عثر عليها أحد الصيادين قبالةجزيرة بليتانج.وصنعت كنوز التانج في أفران خاصة في منطقة في الصين تعرف حالياً بمقاطعة هونان، ويبدو أنالخزف كان في طريقه إلى ماليزيا والهند وشبه الجزيرة العربية.وتضم كنوز التانج قطعاً من الخزف الصيني الأزرق والأبيض وأخرى مطلية بثلاثة ألوان، إضافة إلى ثلاثة صحون منخزف تشينجهوا، هي أفضل ما اكتشف حتى الآن من هذا النوع من الخزف. وتشير الكتابات التي وجدت على بعضالقطع على أن عملية صنع الخزف ونقله، تمت في فترة ما خلال القرن التاسع الميلادي، وهذا ما يؤكده تاريخ الكربون الموجودعلى بعض القطع،وتوضح النقوش الإسلاميةالتي كتبت بالخط العربي قدم الصلات التجارية بين الصين ودول العالمالعربي.

الانطلاقة المباركة

وكانتْ السفينة "جوهرة مسقط" قد انطلقتْ في رحلتها التاريخية من ميناء السلطان قابوس في تمام الثانية عشرةظهرا في الأول من ربيع الأول 1431 هجرية الموافق السادس عشر من فبراير 2010 ميلاديةإلىبحرعمان؛ مروراببحر العرب على طول الساحل الغربي للهند، وحول سريلانكا، ثم عبرت خليج البنغال مرورا بمضيق ملقة ووصولا إلىسنغافورة،وتوقفت في طريق رحلتها البحرية في موانئ كوتشن(بالهند)، وجال (في سريلانكا)، وجورج تاون (بجزيرة بانانجماليزيا) وبورت كلانج بماليزيا ايضا.

‏ووصلتْ السفينة إلى محطتها الأخيرة في سنغافورة الساعة الخامسةعصرا يوم الثالث من يوليو 2010؛ حيث لاقت استقبالا رسميا وشعبيا حارا. ويبلغ طول السفينة 18 مترا بعرض 6.5 متر،وقد تم بنائها باستخدام ألواحمن الخشب تم تشبيكها بواسطة حبال مصنوعة من ألياف أشجار النارجيل،دون استخدام المسامير أو البراغي، وذلكبمايماثل صناعة السفن التقليدية إبان القرن التاسع الميلادي،واستخدم في بناؤها اخشاب:أفزيليا أفريكانا (منغانا) والساج (من الهند) والسدر (من عمان)،وتم خلال توقف الجوهرة في سريلانكا استبدال صاريتي السفينة اللتينتهشمتا بفعل الرياح العاتية بصاريتين مماثلتين من نفس نوع الخشب، ولكن من سريلانكا.

واستخدمتْ خلال الرحلة وسائل الملاحة البحرية التقليدية التي كانت تستخدم في القرن التاسع الميلادي إلى جانبالتقنيات الحديثة؛ وذلكبهدف تعزيز الفهم بوسائل الإبحار القديمة وتوثيقها، وصُنعتالأشرعة الرئيسية التي استخدمتفي السفينة يدويا من قماش الكتان، كما تم أيضا استخدام بعض الأشرعة الثانوية المصنوعة من سعف النخيل.وقضت السفينة "جوهرة مسقط" 68 يوما في البحر، في حين استغرقت المدة الكاملة للرحلة 138 يوما، وقطعت 3580ميلا بحريا (أي ما يعادل 6630 كيلومترا)، وتكون الطاقم الأساسي لسفينة من خمسة عشر بحارا بقيادة القبطانالعماني صالح بن سعيد الجابري.

‏توثيق التاريخ

وتم توثيق كافة مراحل بناء السفينة "جوهرة مسقط" ورحلتها الملحمية على الموقع الإلكتروني للسفينة الذي يحتوي علىالعديد من الأفلام والصور والخصائص التفاعلية الأخرى، كما قامت قناة ناشيونال جيوجرافيك العالمية بتصوير فيلمينوثائقيين الأول عن عملية بناء السفينة والثاني عن رحلتها من مسقط إلى سنغافورة. كما صدر كتاب عن قصة السفينةورحلتها.كان لاكتشاف السفينة الأم وحمولتها أهمية تاريخية كبيرة فهو يقدم دليلاً ملموساً على وجود الطريق التجاري البحري بينشبه الجزيرة العربية والشرق الأقصى منذ القرن التاسع على أقل تقدير، واسم بتعميق فهم اساليب الملاحة وصناعةالسفن العربية أثناء تلك الحقبة، كذلك تبين القطع الخشبية المستخرجة أن العرب استخدموا طريقة التشبيك بالحبال في صناعة السفن وقد بينت الاختبارات التي أجريت على الخشب موطنه الأصلي، أما موقع العثور عليها فقد أوضحالكثير حول الطرق البحرية التي سلكها الملاحون العرب في أسفارهم إلى ومن الصين.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن صلة الإنسان العماني بالبحر تنبع من تاريخ عمان البحري الضارب بجذوره في أعماق الزمن؛ إذ من المعلوم أنالبحارة العمانيين كانوا من أوائل العرب الذين وطأت أقدامهم شواطئ الهند والصين وإفريقيا وأمريكا حاملين في أعماقهمقيم وأصول الدين الإسلامي الحنيف والتسامح والسماحة ومكارم الأخلاق.

وجاء نجاح رحلة السفينة "جوهرة مسقط "والمعاني التي بنيت من أجلها والنتائج التي تحققت لتجسد للإنسان العمانياليوم أنه أمام مرحلة تحدٍ لكي يضيف إلى أمجاد الاجداد، أمجادا جديدة، تتسابق وتتواءم مع معطيات العصر، كما أنهااستهدفت تحفيز الشباب العماني من أجل المحافظة على هذا الجانب من التراث العماني والانطلاق نحو آفاق أرحبفي معاصرته للبحر والإبحار وفنون التراث والأسفار، رافعا اسم عمان عاليا ومحققا الإنجاز تلو الإنجاز في عالم يزخربالعديد من المآثر والعلوم.

‏وقد أكَّدت الرحلة التاريخية للسفينة "جوهرة مسقط" أن روح الاستكشاف والتجارة والتبادل الثقافي تسهم بدوركبيرفيتحقيق السلام والرخاء، لكافةالأطراف المشاركة، وأن روح الانفتاح والتنوع الثقافي والحضاري، يمكن أن تؤتي ثمارا يانعةتنعم بها الإنسانية جمعاء.

تعليق عبر الفيس بوك