العلاقات السودانية الإيرانية.. لماذا فشلت الخرطوم ونجحت مسقط؟

ضرغام أبوزيد

إلى وقت قريب كانت العلاقات السودانية الإيرانية في قمة عنفوانها، وكان التعاون -في كافة المجالات: الاقتصادية والسياسية والعسكرية- قائمًا على قدم وساق، لطالما أثارت العلاقات ما بين الخرطوم وطهران القلق في الأوساط الأمريكية والأوربية أو ما يسمى مجازا بـ"المجتمع الدولي"، حدث ذلك عندما كانت إيران "إرهابية !!" وكانت قابعة في قائمة الخارجية الأمريكية للدول المارقة راعية الإرهاب، وكان يُنظر بالتالي لهذه العلاقات باعتبارها تحالفا غير مقدَّس ما بين شياطين كوكب الأرض، وهي علاقة يتعيَّن ردعها وتقليم أظافرها الطويلة الحادة وبأي وسيلة وبأي ثمن. وعلى ذلك، مضت العلاقات تأرجحا ما بين نقمة الغرب وتحفظ دول خليجية ما برحت تنظر للخرطوم باعتبارها موطئ قدم للمد الشيعي القادم لا محالة عبر البحر الأحمر وصولا لشواطئ السعودية، والانطلاق منها لاكتساح دول الخليج العربي، وكانت علاقات الخرطوم والرياض تراوح مكانها؛ فالرياض لم تُخف أبدا امتعاضها من تنامي هذه العلاقات المشبوهة، إلى أن حدث التحول الجذري بعد عاصفة الحزم.

الآن يحقُّ لنا كمراقبين للمشهد السياسي السوداني أن نتساءل عن الخلل والخطأ الذي ارتكبته الخرطوم وطهران معا، وأدَّى في نهاية المطاف إلى انهيار العلاقات الثنائية بينهما وبهذا النحو المريع، كانت المفارقة مدوية بطبيعة الحال، ففي الوقت الذي نأت فيه الخرطوم بنفسها من أكبر دولة متهمة برعاية الإرهاب ومن أكبر حليف إستراتيجي لها بعد الصين، على أمل أن يجد هذا الموقف الثناء والاستحسان من واشنطن وأوروبا، نجد أن واشنطن وطهران راحتا في عناق حالم تحت ظلال أشجار ندية، ليعلن البيت الأبيض الأمريكي بعدها بأن طهران لم تعد إرهابية بعد الاتفاق النووي التاريخي، وأنها عادت بالتالي للحظيرة الدولية كدولة راعية للأمن والسلم الدولييين، وليبقى السودان وحده هو الإرهابي الوحيد.

وما بعد الاتفاق، تم الإفراج عن 180 مليار دولار علي حد تعبير الزميل/ عبدالباري عطوان كأصول مجمدة في البنوك الغربية، وتم رفع الحظر الاقتصادي القاسي، وتم إعادة إيران للمنظومة الاقتصادية الدولية، وهذا يعني تسارع عجلة النمو العلمي والاقتصادي والعسكري بها، وستغدو أكبر منتج للنفط في الشرق الأوسط بل ستسيطر على أسعاره ارتفاعا وهبوطا. وفي المقابل، فلن يكون هناك منافس إستراتيجي شرق أوسطي يمكن تسميته ليغدو مؤهلا لمناطحة إيران الحجة بالحجة واللكمة باللكمة هنا يحق لنا أن ننعى للملأ العراق الصدامي العتيد، أخر قلاع القوة العربية البائدة.

ثم يمكننا القول بأنَّ الخرطوم قد خسرت إيران في الوقت غير المناسب على الإطلاق، وهذا من سوء حظها بالتأكيد، وهي بذلك تلعق مرارة أخطائها في تحديد أطر هذه العلاقات وبجلاء ومنذ البدء، تركت الحبل على الغارب، والخطوط المعنية هي كالتي حددتها العاصمة العُمانية مسقط في كل علاقاتها الخارجية القائمة على مبدأ عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول الأخرى، شقيقة كانت أم صديقة وبأي صورة من الصور وبأي شكل من الأشكال، والعكس صحيح بالطبع، وهذا ما منح عُمان موقعها المتفرد في الخارطة السياسية الدولية، فلا غرو أن يعلن صندوق النقد الدولي -وكما أبلغتنا بذلك جريدة "الرؤية"- بأن السلطنة هي أكثر دول المنطقة آمنا، ذلك لم يأت من فراغ فهو نتاج طبيعي للسياسة الحكيمة والحصيفة لهذه الدولة، والتقرير له انعكاسات اقتصادية هائلة ستعود خيرا على عُمان إذ ستغدو في المرتبة الأولى كجاذبة للاستثمارات الأجنبية.

إيران تعرف وتعلم أنَّ السلطان قابوس بن سعيد لا يهادن في تلك المبادئ المقدسة عُمانيا؛ إذ هي عنوان للسياسة الخارجية لبلاده، وبالتالي لم تعمد أبدا إلى التبشير بالمذهب الشيعي داخل السلطنة رغم وجود مواطنين شيعة بعُمان يعيشون جنبا لجنب من إخوانهم الأباضية والسنة ودون أن يعلم أي زائر لهذا البلد بأن هناك مذاهب دنية شتى إذ لا مظهر يشير لذلك فلا تفرقة دينية أو مذهبية أو عقائدية وفي كل مجالات الحياة، المواطنة هي الأساس هناك، نقول ذلك بعد حوالي عقدين من الزمان مكثناها مكرمين أعزاء بمسقط وكنا فيها فاعلين كما يحب ربنا ويرضى في المنظومة الاجتماعية والفكرية والثقافية العُمانية.

هذا الاحترام الإيراني للشأن الداخلي العُماني هو السر في استمرار العلاقات الثنائية بينهما رغم توترها مع باقي دول المنطقة، وكانت مسقط هي اللأعب الأساس والوسيط الموثوق به ما بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي وباقي الدول العربية والأجنبية، كما ساهمت وبإيجابية في الوصول للاتفاق النووي الأخير، فطهران يهمها أن تبقى على علاقاتها الوثيقة مع السلطنة مع التأكيد على الإحترام المتبادل، وهي علاقات قديمة وضاربة في عمق التاريخ والتبادل التجاري بينهما كان ولا يزال قويا وفاعلا.

وبما أنَّ الأمر كذلك، فإن السلطنة ستجد نفسها أول المستفيدين اقتصاديًّا عبر التبادل التجاري القديم الجديد مع إيران الجديدة كليا والتي تجري دماء الصحة والعافية في شرايينها هذه الأيام كما لم تجر من قبل، فإذا كان السودان أول الخاسرين لإيران فإن عُمان هي أول الفائزين لقد رفعت الأقلام وجفت الصحف.

فإذا كانت إيران لم تعمد أبدا للتبشير بالمذهب الشيعي في عُمان رغم القرب الجغرافي بينهما فلماذا فعلت ذلك وبقوة في علاقاتها مع السودان واليمن رغم بعدهما الجغرافي؟

سؤال ضخم وهائل، وبالمنطق وفي محاولة الإجابة عنه، لا بد من الإقرار بأنَّ الخرطوم لم توضح لطهران وبجلاء ومنذ البدء بأن التبشير بالمذاهب هو خط أحمر، وأن التدخل في الشأن الداخلي هو خط أحمر مزدوج، ولأن التساهل السوداني كان في عنفوانه، فكان أن استغلته طهران وبنحو صريح ودفعت بكل إمكاناتها الشيعية لكل ولايات السودان السني منذ الأزل، وكان من المفترض زمنيا أن تندلع وللمرة الأولى في السودان حرب أهلية مذهبية، تماما كما هو واقع باليمن الشقيق، إذ لم تستطع صنعاء الضعيفة في الوقت المناسب تلجيم التبشير الشيعي الإيراني فحدث ما حدث، وبما أنَّ الخرطوم قد انتبهت بعد خروج القطار عن القضيب؛ فوجدت نفسها بالفعل أمام مفترق طرق،إما اختيار طهران أو الرياض، ولا توجد منطقة وسطى هنا على الإطلاق، فكان قرارها باختيار الرياض لاعتبارات موضوعية معروفة.

تعليق عبر الفيس بوك