سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(20)

 د. صالح الفهدي

الكفاءات

عادَ إلى الوطن بعدما أنهى دراسته العليا، ولم يكد يمر عليه أسبوع من عودته حتى تلقى عرضاً مغرياً من جامعة أمريكية براتب خيالي يبلغ خمسة وعشرين ألف دولار أمريكي، وميزات لا تقل إغراءً لأنهم وجدوا فيه كفاءةً لا يُفرَّط فيها..! لكنه تقدم لشغل وظيفة شاغرة في جامعة وطنية بحاجة ماسة لمحاضر في مثل علمه وكفاءته، وندرة تخصصه. أخذت لجنة التوظيف نفساً طويلاً جدًّا في الرد عليه بلغ الشهر، ربما كانت تفتش فيه عن مثلبة تعينها على رفض توظيفه..! وفي أثناء انتظاره، تلقى عرضاً مغرياً آخر من إنجلترا إلا أنه فضَّل أن يبقى في وطنه، ليفيد بخبراته وعلمه بلده. بعد الشهر الثقيل جاءه الرد القاصف: طلبك لشغل الوظيفة مرفوض..! سألهم: هل لي أن أسأل عن السبب؟ قالوا: لأنك وإن كنت قد أحرزت في إحدى مواد الماجستير درجة الامتياز، إلا أنه عند معادلتها أصبحت في مستوى الجيد جداً..! قال لهم: أسألكم هل ستوظفوني بشهادة الماجستير أم الدكتوراة؟ قالوا بالدكتوراة طبعاً.. قال فكيف بالله عليكم تبنون قراركم على شهادة سابقة لا يربط عليها التوظيف؟!

كفاءات خسرها الوطن بفعل قرارات انفعالية، طائشة، لا تحسب مصلحة الوطن، ولا تقدر قيمة الكفاءة، ولكنها تفكر في لحظتها وليس في مستقبل الوطن، وتنظر في مركزها وليس في المرتبة التي يبلغها الوطن، فتمعَّن في إعاقة كل من تبدو عليه ملامح الكفاءة، والجدارة، لأنه سيتفوق عليها.. فأي عقليات هذه؟ وأي شعور بالمسؤوليات هذا؟! كفاءات متمكنة لو استثمرت خير استثمار لأزهر الوطن، وازدهرت جوانبه، لكن البعض ممن لا يستشعر قيمة الكفاءات الوطنية آثر أن يستبد فيقصي هذه الكفاءات، أو يعطلها فإذا بها كصندوق الجواهر الذي ألقيت مفاتيحه في البحر، فلا الذي ألقى المفاتيح أخرجها لتزين، وتحسن، ولا هو أسلمها لمن يقدر قيمتها، وثمنها، وأصالتها!

يقول أحد أصحاب الكفاءات: أتلقى طلبات مستمرة من الخارج للاستفادة من خبراتي، فيسر ذلك نفسي، ولكنني سرعان ما أطرق رأسي حزيناً لأن من في وطني لا يلوون رقابهم نحوي، ولا يلتفتون إلي، ولا يعيرونني اهتماماً بينما يأتي هذا الاهتمام من الخارج!

الخارج دائماً..! لِمَ ذاك؟ هل هناك من يقدر الكفاءات والمواهب والقدرات، وهنا يندر وجودهم إلى درجة العدم؟! هذا ما ألحظه؛ فكَمْ يكتبُ إليَّ من أصحاب الكفاءات والمواهب ممن يسألون عن الطريق إلى الدعم، فلا أجد جواباً أجيبهم به؟! وكم هم أصحاب المبادرات والمشاريع الذي لا تفتح لهم الأبواب، ولا تسمع لهم الأصوات؟!

وإذا نظرنا بصورة موسَّعة إلى الكفاءات الوطنية بصفتها "مشروعاً وطنيًّا" للتنمية الحقيقة لأي بلد، نرى أنها عملية مكوَّنة من ثلاث مراحل؛ الأولى: مرحلة التنمية، والتطوير للكفاءات الوطنية التي تنبغ في جانب من الجوانب ذات الأهمية والشأن. والثانية: مرحلة التمكين، ومنح الثقة، والصلاحيات، وتوفير الإمكانيات اللازمة لهذه الكفاءات لكي تحول أفكارها الذهنية الطموحة إلى واقع مشهود يؤتي نتائجها الملموسة على الأرض. أما الثالثة، فهي: مراعاة عدم وقوع هذه الكفاءات في فخ الجمود، والسكونية؛ وذلك بضمان استمرارية مصادر المعرفة، ووسائل الخبرة لهذه الكفاءات. وما لم يكن لهذه الكفاءات الموهوبة من دعم معنوي ومادي فإنها ستظل مشلولة الأطراف لا تستطيع أن تحقق الطموحات المأمولة.

لقد شهدت كفاءات قديرة كلما نظرت إليها حدثتني نفسي بهذا القول: لقد خسر الوطن هذه الكفاءة التي لو منحت المكانة التي تناسبها، أو العمل الذي تجيده، لحققت ما يشبه السحر، وأنجزت ما يعد من المستحيلات عند أصحاب النفوس العليلة، والأنظار الكليلة..! لكنها أصبحت مثل الجوهرة التي انسلت من العقد! وحينما أتتبَّع تهميش هذه الكفاءات أجد السبب غير مهني، ولا وفق قانون وظيفي وإنما بسبب مزاج شخصي..! وهذه طامة كبرى تعاني منها مجتمعاتنا! صاحب السلطة إن اختلف مع أقرب مساعديه أو أبعدهم يضيق صدراً، ولا يطيق صبرا! الأمر الذي ينم على عدم أهليته للمسؤولية التي تتطلب السمو فوق المشاعر الشخصية إلى ما هو أعظم من ذلك: المصلحة الوطنية. يقول الراحل غازي القصيبي في كتابه "حياة في الإدارة": "أستطيع أن أقول، صادقاً، إنني لم أندم على قرار واحد بتعيين مسؤول واحد، كان السبب، بعد توفيق الله، أنني لم أنظر قط إلى الاعتبارت الشخصية. لم يكن العمل عملي الشخصي لأشرك فيه من أحب وأحجب عنه من أكره. كان العمل عمل الدولة، وكان من واجبي أن أبحث عن الأكفأ دون تأثر المودة أو الصداقة أو الزمالة".. وأجزم بالقول أنَّه لو تبنى كل مسؤول كبير هذا المبدأ لتحررت الأوطان من قيود الأمزجة والأهواء والمصالح الشخصية التي ما أردى الأوطان أكثر منها!

إنما ينفر البعض من الأكفاء لأن الكفء الأصيل، صاحب مبدأ لا يرضى أن يصبح ناعقاً في حق أو باطل، فنفسه الحرة تأبى أن يصبح مسلوب الإرادة، منهوب المشيئة..! وهنا يحدث الشقاق لا بسبب مصلحة عليا وإنما بسبب تنمر الأول بالسلطة، وانتصار الثاني لمبدئه وهو أغلى ما يملك. يقول القصيبي -رحمه الله- في موضع آخر: "اختيار المساعدين الأكفاء نصف المشكلة، والنصف الآخر هو القدرة على التعامل معهم. الرئيس الذي يريد مساعداً قويَّ الشخصية عليه أن يتحمل متاعب التعامل مع هذه الشخصية القوية، من طبيعة الأمور أن يكون الشخص الموهوب النزيه الذكي معتداً بنفسه وقدراته وألا يتردد قبل إبداء رأيه الصريح في أي موضوع (بخلاف المساعدين الفاسدين الإمعات). لا شيء يتعب أكثر من التعامل الشخصي مع الأبطال كما قال هنري كيسنجر، وأضيف: والتعامل الشخصي مع المساعدين الأكفاء".

... إنَّ نجاح الوزير أو رئيس أية وحدة لا تكمن في تركه فراغاً إذا غادر منصبه، بل يُعد ذلك في العرف الإداري فشلاً إداريًّا له. أما النجاح الفعلي، فيقع في حالة تركه منصبه دون أن يحدث فراغاً، ودون أن يثير ضجيجاً، فتستمر وتيرة العمل على عهدها ومنوالها. أما أن يقصي الوزير الوكيل ويحجم دوره، ولا يأبه لمنحه أية صلاحيات فتلك معارك شخصية لا تجدر بمسؤول أمين أن يخوضها في غمار الأمانة الوطنية التي حمل إياها. وقس على ذلك كل مسؤول يملك سلطة حجب كل صاحب كفاءة، وجدارة عن أن يرفع رأسه، ويفصح عن توقد الأفكار التي تعتمل فيه، فيخرس فمه، ويقيد أياديه عن كل إمكانية. ولقد رأيت أصحاب نفوس مريضة ممن تولوا قيادة بعض المؤسسات وهم غير أكفاء، رأيت كيف قضوا على أصحاب الكفاءات، وطاردوهم، وهمشوهم، فلما عرفوا أنه لم ينلهم الحساب والعقاب طغوا وبغوا!! من الخاسر في نهاية اليوم.. بالطبع ليسوا هم؛ فكل من يقف في وجوههم وقفة حق أشهروا في وجهه سيف الحجاج، وأطاحوا به..! ولقد رأيت كيف يستهزئ البعض من أصحاب كفاءات لو مكنت لكان لأنجزت ما يفتخر به..! يقول أحدهم هازئاً محطماً أحد الأكفاء الذين علقت صورهم في كليات غربية بصفتهم من القلائل الذين استطاعوا إحراز إنجازات متحققة: أنت لست سوى هاو لجمع الشهادات!! ويقول آخر لصاحب كفاءة أكمل دورةً قيادية متقدمة في الولايات المتحدة وحصل على شهادة بتوقيع الرئيس الأمريكي، قال له ساخراً: لا تفرح بتوقيع منسوخ على ورقة..!! ويقول ثالث لصاحب كفاءة مشهودة، وجدارة مرموقة: لا يهمني إن كانت لك إنجازاتك، المهم أنني لا أعرف ذلك عنك، ويقول رابع يريد الاستخفاف من صاحب إمكانية ضليعة، وخبرة واسعة: إن خرجت من المؤسسة سيدخل عشرة أفضل منك..! فكم أركن من كفء، وكم أقصي من بدع، وكم أبعد من ضليع، لأنهم أرادوا التطوير، والتقدم، والإبداع، وسياسة البعض لا تخاف تبعات ذلك!

تتوارد الأمثلة دون نهاية منظورة؛ ذلك لأنَّ تحطيم الكفاءات، وإقصاءها، وتهميشها، وتقزيمها وضع قائم، طالما تبقى الأهواء، والأمزجة، والمصالح الشخصية هي التي تسود العلاقات، وتنظم التعامل..! إنَّ نماء الدول لا يكون بغير الكفاءات الموثوقة التي تحسن الإدارة، فإن مكنت ودعمت أفصحت عن ذخائرها، وأباحت عن بديع مواهبها.

أما الإقصاء، فهو عدو الكفاءات، الماحق لوجودها، الطارد لأنوارها، ولن يكون للكفاءات من شأن إلا في الدول التي تقدر إبداعاتها، وتدعم قدراتها، وتعزز إمكاناتها. ما يجب إقصاؤه هو الذي لا يستطيع أن يقدم شيئاً لوطنه، ولا يتمتع بالأهلية، ولا بالجدارة لأنه يعطل قدرات الوطن، ويشل حراكه، ويقضي على موارده البشرية والطبيعية..! تقول د.هند أبوالشعر: "الأصل أن نقصي الإدارات الفاشلة ونغيرها بجرأة، لا أن نسمح لها بممارسة سياسة إقصاء المتميز والمبدع؛ فالدول العظيمة هي التي تعظم الإبداع وتستثمر الطاقات".

لقد بتنا في أمس الحاجة اليوم إلى الكفاءات الوطنية في كل موقع، وفي كل منصب وموضع، فلا مجاملة من أجل مصلحة الوطن، ولا محاباة من أجل صنع مستقبله، ولا تساهل من أجل حسن إدارة موارده، ولا تهاون من أجل تقدمه ونمائه وتطوره. الوطن فوق المصالح، والعلاقات، والأمزجة والأهواء.

تعليق عبر الفيس بوك