أين المشروع العربي؟

زاهر المحروقي

هُناك من يقول إنه يحق للخليجيين أن يقلقوا من التوجهات الإيرانية، وأن يروا أن الخطر على أمن الوطن العربي يكمُن في إيران؛ فلن نجادل في هذا، بل سأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول إن بعض التصريحات الإيرانية التي تهدد دول المنطقة هي تصريحات خاطئة وغير مسؤولة وتؤجج الأوضاع في المنطقة؛ ولكن من حقنا أن نسأل: إذا كانت إيران لها أهداف ومشروع تريد من خلاله أن تسيطر على الأمة، فأين هو المشروع العربي المضاد؟ وأين هو مشروع الذين يملأون الساحات الإعلامية ضجيجاً حول خطورة إيران؟

... إنَّ من يتابع وسائل الإعلام سيجدها ملأى بمقالات وتصريحات نارية بين السعودية وإيران؛ ولكن من ينظر إلى المسألة -كمحايد ولم يتأثر بالنزعة المذهبية السائدة- يعرف أن الصراع بين الطرفين إنما هو صراع عقائدي في أساسه، يستلهم جذوره من الماضي ومنه ينطلق إلى الحاضر، وأصبح تنافساً على النفوذ والسيطرة، إذ كل طرف يريد أن ينفرد بزعامة المنطقة، مع وجود فارق أساسي بين إيران ومنافسيها، هو أن إيران تحقق إنجازات وراء إنجازات في العلوم والتكنولوجيا والفضاء والصناعات الثقيلة والخفيفة، وتنال الاعتراف الدولي كقوة إقليمية بعد أن فرضت نفسها، فيما نجد العكس عند العرب وخاصة الخليجيين الذين يزدادون "تقزماً" وليس عندهم غير النفط فقط، مما جعلهم مجرد مصرف لدفع الفواتير الدولية في كل الحروب، لدرجة أن يقترن اسم الخليج الآن بالتآمر على الأمة، وهو اتهامٌ من الصعب الدفاع عنه.

إن الاتفاق النووي بين إيران والغرب، أعطى إيران الفرصة لبناء وتعزيز روابطها في جميع أنحاء المنطقة، ولعل التدخل الروسي في سوريا قد عزز من النفوذ الإيراني هناك، وتتسم السياسة الإيرانية بالنفَس الطويل وبضبط النفس، ومن الصعوبة جر إيران إلى مواجهات عسكرية غير محسوبة، وهذا ما أدى بالسعودية أن تلجأ إلى التدخل المباشر في اليمن، مما جرها إلى مستنقع عميق وصعب، تماماً مثلما تورطت من قبل مع بعض الدول الخليجية في المستنقع السوري، وفي النهاية فإن كل هذا ما هو إلا استنزاف لموارد هذه الدول بدلاً من أن تستفيد منها الشعوب، فليس هناك رابح في الحرب، إذ إن الكل خاسر، وإنما دفعت الشعوب البريئة الثمن، لأن اندلاع حرب مباشرة بين الطرفين يبدو أنه مستبعد، رغم التصريحات العدائية بين الجانبين، مما يعني أن تحكيم العقل وتغليب المصلحة الوطنية هو الأهم، ويجب أن يأتي الحل من السعوديين والإيرانيين أنفسهم.

لا شك أن الإعلام له تأثيرٌ قوي على الناس، خاصة إذا كان موجهاً ويُنفَق عليه مبالغ طائلة، فهو يستطيع أن يشكل الرأي العام ويوجه الناس، بل يجعل على بصرهم غشاوة؛ إلا أن ذلك لن يلغي الحقائق أو يغيرها؛ فهناك من يتحدث عن النفوذ والخطر الإيرانيين، ولكنه لا ينظر إلى الخطر الأقرب إليه، سواء كان هذا الخطر داخلياً أم خارجياً أو حتى ما يتعلق بلقمة عيشه؛ والسؤال الذي يجب أن يطرح هو: إذا كانت إيران لديها مشروع وتتمدد، فأين العرب من ذلك؟ وأين مشروعهم الوطني أو القومي؟ وأين يقف حدود أمنهم الوطني والقومي؟ وما هي إنجازاتهم العلمية والصناعية؟ هل يستطيع أحد -خاصة من المسكونين بـ"إيران فوبيا"- أن يشرح لنا الهدف الإستراتيجي لدى الأمة؟ وما هي خططها للمستقبل؟ وماذا أعدت للأجيال القادمة؟ وما هو حالها بعد النفط؟

ثم لماذا لا يسعى العرب وإيران إلى إقامة علاقات طبيعية بينهما؟ إن الموقع الجغرافي لإيران ودول الخليج يحتم أن تكون العلاقات بين الطرفين طبيعية، وهو أمر نبه إليه العديد من المحللين ذوي النظرة الشمولية بعيدة النظر، وليس آخرهم محمد حسنين هيكل الذي قال يوم الجمعة 9/10/2015، لفضائية "سي.بي.سي" إن هناك ثلاث دول تمثل بطن وجوار العالم العربي، وهي إيران وتركيا وإثيوبيا، وإنه يتمنى أن تتحرك مصر لإقامة علاقات طبيعية مع إيران، فمن مصلحة الدول العربية، وخاصة الخليجية أن يكون لمصر علاقات قوية بإيران، وأن يكون هناك صوت عربي قادر على الحوار في طهران حول المخاوف العربية، وكذلك أن يكون لإيران علاقات بطرف عربي قوي تستطيع أن تتحاور معه للتعايش السلمي في المنطقة، وقال هيكل عبارة تحمل كل المعاني وهي: "في عهد الشاه، عندما كان يكح فإن حكام الخليج كانوا يُصابون بالبرد والسل"؛ فهل الجماعة في الخليج يبحثون عمن يعاملهم تلك المعاملة القاسية حتى يعقلوا؟!

ما أبعد ما قاله هيكل عما كتبه الجنرال السعودي أنور عشقي في مقالته في جريدة الأهرام القاهرية عدد 13 أكتوبر 2015، تحت عنوان "خطورة النظام الإيراني على الأمن القومي العربي"، تلك المقالة التي استهلها بامتداح وصول الرئيس السيسي إلى سدة الرئاسة المصرية "بإرادة شعبية"، فاستشعر -أي السيسي حسب عشقي- أهمية الأمن القومي العربي، وتجاوب معه الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي طرح أهمية الأمن القومي العربي في أول اجتماع لمجلس الأمن الوطني في السعودية، ويضيف عشقي: "لقد نظر كلاهما إلى ما تعانيه الأمة العربية من مخاطر الإرهاب وإيران، فإيران صنفتها الولايات المتحدة ومعظمُ دول العالم بأنها راعية للإرهاب، بعد أن آوت عناصر القاعدة، ووفرت لهم الملاذ الآمن، وأن إيران قامت بزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط من خلال أذرعها التي تغلغلت في الدول العربية، مثل حزب الله؛ فقد استيقظت لدى إيران الأحلام الفارسية بإعادة مجد داريوس الأول عندما وصل إلى الشواطئ السورية وقفز إلى مصر واليونان، لكن الملك سلمان -حسب عشقي- أدرك أن الأمر أصبح يشكل خطراً على الأمة العربية؛ فتعاون مع أشقائه لطرد أذرعة إيران من اليمن، وشاركت مصر مع دول التحالف، لأنها تدرك المخاطر التي تهدد الأمن القومي العربي. (وقد يلاحظ القارئ أن عشقي لم يتناول خطورة إسرائيل على الأمن القومي العربي، وما تفعله في الأقصى الآن)؛ ويكشف عشقي في مقاله أنه تحدث في 4 يونيو 2015، من خلال كلمته عن المخاطر الأمنية على الشرق الأوسط أمام لجنة العلاقات الخارجية الأمريكية بواشنطن، عن "أهمية تغيير نظام الحكم في إيران"، ضمن سبع نقاط أخرى قدمها عن مخاطر الأمن في المنطقة.

إنَّ ما كتبه أنور عشقي يدخل ضمن حرب التصريحات بين السعودية وإيران التي أشرنا اليها في البداية، وفي مقابلها هناك تصريحات إيرانية مماثلة؛ فبعد وصف العميد أحمد رضا بوردستان قائد القوات البرية في الجيش الإيراني، الجيشَ السعودي بأنه "مستأجر ونشهد آثار الهزيمة عليه، رغم أنه لم تُطلَق أي قذيفة صوبه"، تساءل: "ما بالهم لو انفجرت عدة مفرقعات في الرياض؟".

... إنَّ ما يُؤسف له أن تعيش الأمة دون هدف ودون مشروع يغطي الفراغ العربي، لدرجة أن تُنسى القضايا الأساسية، كقضية فلسطين والمسجد الأقصى مثلاً ويتم التركيز على إيران فقط، وهي التي اتخذت الأسباب لبقائها وتطورها رغم الحصار الطويل، وتخطت كل الأزمات التي مرت بها -وهي ليست قليلة ولكنها كانت كفيلة بتدمير أي دولة أخرى- بل تعاقب على رئاستها سبعة رؤساء عبر انتخابات حرة ونزيهة، لذا فعندما نجد دولة عربية واحدة تفعل ما فعلته إيران ويكون لها هدف مشروع ورؤية واضحة لتحقيق أمنها القومي والوطني، سنكون أول المصفقين لها؛ فلا معنى أن يتم تدمير سوريا واليمن باسم محاربة إيران، ولا معنى لأن تتفق المصالح العربية والخليجية لمواجهة عدو مشترك هو إيران؛ فعلى من يريد أن يواجه إيران عليه أن يكون نداً لها في كل شيء، وأهمه فهْم الأمن القومي، وتطور في التكنولوجيا والصناعة، وأن يكون له ثقل يؤهله بأن ينال احترام الكبار في العالم، أما بغير ذلك سيظل العرب مكتفين بالغناء "يو دان دانة"، فيما إيران وغيرها من الدول التي تأخذ بأسباب التقدم والتطور تعظم وتكبر، وهو منطق عادل تماماً.

تعليق عبر الفيس بوك