الاهتمام العالمي بالحوكمة (1- 2)

 

د. علي بن حمدان البلوشي

ساهمت المؤسسات الدولية في العقد الأخير من القرن العشرين في صياغة مفهوم الحوكمة كمفهوم معاصر لتسهيل أمور المجتمعات وضمان حياة كريمة لهم على المستويات الاقتصادية، السياسية والاجتماعية في ظل غياب الأسس الشرعية لنظم الدول النامية حيث أدركت حكومات هذه الدول أن الخروج من الأزمات الشرعية هو تطبيق مبادئ الحوكمة وتمكنت الحكومات من خلال توعية وإقناع مجتمعاتها بأن إصلاحات الحوكمة تؤدي إلى إصلاح النظام السياسي وإتاحة مساحة من الحرية للتعبير عن الرأي والمشاركة في إحداث التغيير.

وقد نما الاهتمام بمفهوم الحوكمة في الدول المتقدمة أولاً وكذلك في الدول النامية التي شهدت تطورات اقتصادية. واهتمت المؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية بموضوع الحوكمة منذ العقود القريبة خاصة بعد الأزمات الاقتصادية والمالية العالمية. جاء القصور في آليات الشفافية والحوكمة في بعض من المؤسسات المالية العالمية في مقدمة أسباب انهيار هذه المؤسسات إضافة إلى ضعف الرقابة والإشراف وقلة الخبرات المحاسبية المتخصصة. وعليه، اهتمت المؤسسات الدولية بمفهوم الحوكمة لتكون ركيزة أولية لمعالجة التحديات الاقتصادية والمالية وقد ظهر ذلك في الكثير من المنظمات والهيئات المحلية والدولية للتأكيد على فوائد مفهوم الحوكمة وتطبيقه في مختلف الدوائر الاقتصادية ومنها: لجنة كادبوري  Committee Cadbury والتي تم تأسيسها لوضع إطار لحوكمة المؤسسات باسم Practice Cadbury Best عام 1992 في المملكة المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والتي قامت أيضًا بوضع مبادئ حوكمة الشركات Principles Governance Corporate of عام 1999 وصندوق المعاشات العامة(Calpers ( في الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك لجنة  Committee Ribbon Blue في الولايات المتحدة الأمريكية والتي أصدرت مقترحاتها.

وتتضح أهمية الاهتمام العالمي بموضوع الحوكمة الذي اختلف العلماء والمفكرون حول الوصول إلى تعريف موحد لمصطلح الحوكمة، فقد عرفت مؤسسة التمويل الدولية IFC ( الحوكمة بأنها: "النظام الذي يتم من خلاله إدارة الشركات أو المؤسسات والتحكم في أعمالها". كما عرفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية(OECD ) وفقًا للكاتبة سليمة، )1915) بأنها: "مجموعة من العلاقات التي تربط بين القائمين على إدارة الشركة ومجلس الإدارة وحملة الأسهم وغيرهم من أصحاب المصالح" وعرف أسام سعيد محمد (2011) الحوكمة بأنها الإدارة الحكيمة التي تؤكد على المشاركة والشفافية والمحاسبية والكفاءة وتحقيق العدالة وتطبيق القانون تمارسها الدوله من خلال القطاع العام ويشارك معها وميارس القطاع الخاص والمجتمع المدني لتحقيق التنمية المستدامة. فيما أكد تقرير التنمية الإنسانية العربية (2011) للحوكمة على الجانب التنموي الذي يساهم على رفاهة الانسان ويتيح له الفرص للمشاركة في الانشطة الاقتصادية والاجتامعية والسياسية.

وإجمالًا فإن فإن الحوكمة تعني وجود نظم وقوانين تحكم العلاقات بين الأطراف الأساسية في الشركة أو المؤسسة من أجل تحقيق الشفافية والعدالة، ومكافحة الفساد.

ومن الأسباب التي أدت إلى أهمية الحاجة إلى الحوكمة الأزمات الاقتصادية والمالية التي شهدتها بعض من دول شرقي آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا في عقد التسعينيات من القرن العشرين، وكذلك ما شهده الاقتصاد العالمي في الآونة الأخيرة من أزمة مالية عالمية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. وكانت أولى هذه الأزمات تلك التي عصفت بدول جنوب شرقي آسيا ومنها ماليزيا وكوريا واليابان عام 1997، فقد نجم عن هذه الأزمة تعرض العديد من الشركات العملاقة لضائقات مالية مما لزم إلى وضع نظم وقواعد للحوكمة لضبط عمل جميع أصحاب العلاقة مع المؤسسة أو الشركة، وتزايدت أهمية الحوكمة نتيجة لاتجاه كثير من دول العالم إلى التحول إلى النظم الاقتصادية الرأسمالية التي يعتمد فيها بدرجة كبيرة على الشركات الخاصة لتحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، وقد أدى اتساع حجم تلك المشروعات إلى انفصال الملكية عن الإدارة، وشرعت تلك المشروعات في البحث عن مصادر للتمويل أقل تكلفة من الاستدانة فاتجهت إلى أسواق رأس المال. وساعد على ذلك ما شهده العالم من تحرير للأسواق المالية، فتزايدت انتقالات رؤوس الأموال عبر الحدود بشكل غير مسبوق، و دفع اتساع حجم الشركات، وانفصال الملكية عن الإدارة إلى ضعف آليات الرقابة على تصرفات المسؤولين والمديرين، وإلى وقوع كثير من الشركات في أزمات مالية.

وقامت الدول باتخاذ اجراءات وقائية للحد من المشاكل المالية والاقتصادية حيث وضعت الجهات الرقابية في الولايات المتحدة الأمريكية قواعد تتميز بالحوكمة الجيدة لسربان-أوكسلي عام 2006 نتيجة انهيار شركة إنرون الأمريكية بسبب تساهل المدققين الخارجيين مع مجلس الإدارة وعدم دقة التقارير المالية الصادرة عن الشركة.

وساهمت جهود المنظمات الدولية في مجال التنمية الإنسانية سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى ظهور مفهوم الحوكمة و قد ركزت هذه الجهود على المساءلة المالية للحكومات والادوات الحكومية للسياسات الاقتصادية لضمان العدالة والمساواة المجتمعية.كما تم التركيز على الجوانب الديمقراطية للحوكمة وتمكين دور المجتمع المدني في مجال إعداد التشريعات والقوانين. وهذا ما أكدت عليه منظمة التنمية الاقتصادية وأهمية العلاقة بين جودة و فعالية الحوكمة وبين رخاء المجتمع. ويمكن الاستنتاج أن مفهوم الحوكمة توسع ليشمل مجموعة العلاقات القائمة بين الحكومة والمواطنين سواء كأفراد أو كجزء من مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية.

لقد أصبح تطبيق مبادئ الحكم العادل هدفًا تسعى إليه المؤسسات الدولية لضمان تنمية متساوية وعادلة بمشاركة مجتمعية من أجل الحفاظ على مكونات البيئة للأجيال المستقبلية، وهذا ما قامت به الدول المتقدمة بهدف تطوير وحوكمة أنشطتها ومراقبة الأداء من خلال اتباع منهجية علمية واضحة ومعايير محددة لتطبيق مبادئ الحوكمة من أجل تنمية مستدامة.

لذلك.. بات مفهوم الحوكمة مفهوماً شاملاً ومتكاملاً للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الدول المتقدمة خاصة، أما في بعض الدول النامية، فهي ما تزال في حاجة ماسة إلى تعزيز كفاءتها وأهمية ترجيح المصالح العامة على المصالح الشخصية من أجل تطبيق الحوكمة الحقيقية في أنشطتها المختلفة. وقد رحبت المنظمات الدولية ومنها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتطبيق مبادئ الحوكمة للحد من تدخل الدولة والسماح بتحرير الأسواق.

** أستاذ مساعد بالكلية الحديثة للتجارة والعلوم

تعليق عبر الفيس بوك