بين النفط وأزمته.. نحن قادرون

زينب الغريبيَّة

في طريقنا إلى الجبل الأخضر بطريقه -الذي لطالما يُخيفني مع أنه أصبح ممهَّدا وسلسا- يبث المذياع حوارا تسري كلماته بين مسامعنا كالسم الذي يُحدث تنميلا في أطرافنا، يبث خوفا نترقب على أثره ما الذي سيحدث! أخبار عن انخفاض أسعار النفط، والأزمة المالية، والتقشف في المصروفات الحكومية، وتحليل الكتَّاب من هنا وهناك؛ منهم من يُلقي اللوم على الحكومة، وآخرون يرون المواطنين هم الملومون في تلك الأزمة، إلا أنَّ الواقع أنَّ الأزمة أصبحت واقعا، وأيًّا كان السبب، فلابد من تحمُّل العواقب كما هي، وعلينا التأقلم معها بتنميلها ورهبتها والسم الذي فيها.

"أنتم لديكم النفط، وهو أفضل مما عندنا".. عبارة قالها لي أحد العرب عندما كنت في رحلة سياحية في بلادهم، حينها سرحتُ بمخيلتي للبعيد: هل يُوازي النفط في بلادنا أنشطة أخرىكالسياحة والزراعة والصناعات المتنوعة كالمنسوجات في بلدان عربية أخرى؟ هل لو كانت بلادنا تعتمد على أنشطة كالسياحة ستكون كتلك البلدان، أو أنها ستكون أقل بكثير؟ هل لو كنا بلا نفط سنكون مثلهم، أو أقل شأنا؟! ماذا لو لم يكن لدينا 800 ألف برميل من النفط نصدِّرها كل يوم؟ يبدو أن الإجابة عن هذه الأسئلة بدأت في الظهور تلقائيا شيئا فشيئا.

أشعرُ بهزيمة كبيرة بداخلي؛ سببها: النفط؛ لأننا نعتقد أن وجودنا وحياتنا، لولاه لم تكن بالصورة التي نعيشها اليوم. النفط هو الذي منحنا الشارع الحديث، النفط هو الذي منحنا المدرسة والجامعة، وهو الذي منحنا السيارة الفخمة، ومنحنا البيت الفاخر.. النفط هو الذي منحنا هذه المراكز التجارية، وهو الذي منحنا خدمًا في بيوتنا، ومنحنا هذه الدولة العصرية بكل تفاصيلها ومؤسساتها؛ فالنفط هو من منحنا حياتنا التي نعيشها اليوم.

لكن.. ماذا لو لم يظهر النفط في بلادنا؟ هل سنكون في وضع مُختلف عما نحن عليه اليوم؟ هل سنفتقد للحياة العصريةالتي نعيشها؟ هل سنتخلف عن مُواكبة التقدم والاستعانة بوسائله ومعداته؟ هل سنعجز عن بناء بلدنا بأنفسنا؟ هل سنحتاج إلى الاستعانة بالآخرين لبناء بلدنا بدلاً منا؟ هل سنتقوقع على أنفسنا كما كان آباؤنا وأجدادنا في الجيل الذي سبقنا؟ هل سنُهاجر مثل بعضهم بحثًا عن لقمة العيش، أو سنجد البديل الموجود كمصدر للدخل ونعمل عليه؟ أفتقدُ الرؤية لماهية مصيرنا الحقيقي.. وربما لا أحب أن أفكر فيها كثيرا؛ خشية امتداد فترة الجيل الذي سبقنا، أو ربما تردِّي الوضع بحكم التقدم العالمي في شتى شؤون الحياة عما كانت عليه في زمنهم.

وربما أكون متفائلة؛ فلعلَّ غياب النفط سيقودنا للنجاح في سياسة تنويع مصادر الدخل، التي عجزنا عن تحقيقها في ظل اعتمادنا على النفط، كنا سنُواصل الاهتمام بالزراعة، وسنستغل سهل الباطنة، وسهل صلالة، ومُختلف المناطق التي تتواجد بها الأفلاج والمياه الجوفية، وسنصدِّر التمور والليمون والموز والطماطم...وغيرها من الأصناف التي يُمكن أن نكتفي ذاتيًّا منها، كنا سنهتم بالصيد، وسيظل العُمانيون يركبون البحر بأنفسهم، وليس العمالة الوافدة كما هو عليه الوضع الآن. كنا سنقيم صناعات وشركات محلية للمنتوجات البحرية، سنكتفي بأنفسنا، ونصدِّر ما فاض، كنا سنهتم بالثروة الحيوانية، نوفر احتياجاتنا من جميع منتجاتها الغذائية من لحوم وألبان، ومنتجاتها الأخرى كالجلود والقطن.. ستنشط حينها الصناعات الغذائية والصناعات الأخرى المرتبطة بها، ونكتفي ذاتيا ونصدِّر الفائض منها إلى الدول المجاورة. وربما نتفوق في صناعات كثيرة بحكم الوفرة الموجودة لدينا وحاجتنا لاستثمار مصادرنا، وحاجتنا لتشغيل كوادرنا، وحاجتنا للموارد المالية مقابلها.

وسأكون أكثر تفاؤلا؛ فربما سيؤدي اشتغالنا بأنفسنا لكسب عيشناإلى عدم وجود هذه الأعداد الكبيرة من العمالة الوافدة، فما حاجتها لبلادنا التي لا يخرج الذهب من أرضها، كنا سنعتمد على أنفسنا في بناء بلدنا، كما فعل أجدادنا وآباؤنا، لم يتغيَّر شيء في قدرتنا، ولا في إرادتنا، ولكن فقط ظهر النفط، وشعرنا بأن هناك من يستطيع نتيجة حاجته أن يقوم بالعمل الشاق، وشعرنا بأن هناك أعمالًا تليق بنا، وأخرى تليق بغيرنا؛ فتعالينا على أعمال تكسب الإنسان ليس كرامة واحتراما إنما دخلا وحياة كريمة، وأصبح من الصعب الرجوع إليها لأنها أصبحت مُلتصقة بوافدين.

نظرة جعلتْ كثيرًا من خيرات بلادنا في أيديهم، وتحول نتاجها ووارداتها إلى دولهم، فلا أعجب أن يتناقل "الواتساب" صُورة لصفين متجاورين على جهازي البنك أحدهما صرَّاف يصطف عليه أبناء البلد، والآخر للإيداع اصطف عليه عمال من الجنسيات الآسيوية؛ فخير بلادنا المهدور ليس من النفط. إنما من أعمال ومصادر أخرى نجح أولئك في استغلالها، والعمل بها.

وبالتالي؛ بشكل تلقائي وطبيعي لنتصبح لدينا هذه الأعداد من البطالة التي أصبحت مُشكلة كبرى تواجهها الدولة؛ فالتعليم بالمجان، والكل يتعلم، ومن ذا الذي يهتم للتعليم، وتطوير ذاته، وأخذ العلم الصحيح؟! فالشكوى تلصق بالمؤسسات التعليمية أنها غير قادرة على مواكبة الجديد وتقديم الأفضل للأجيال. لستُ في دفاع هنا عن تلك المؤسسات، ولكن لذلك مسار آخر للحديث عنه ليس في سياق حديثنا هذا؛ فالترفُّع عن العمل، وترك الميدان لغيرنا، ولهثتنا على العمل الحكومي بمميزاته ونزول الحكومة لرغبة الشعب، وتوفير شواغر لأولئك العاطلين، خلق نوعًا آخر من البطالة "مُقنَّعة" غير ظاهرة؛ يجلس فيها الموظف على كرسي وراء مكتبه، يلعب بجهاز التليفون النقال، أو ما منحه الوضع من تجول في شبكة الإنترنت.

وعندما نصنع المال بأنفسنا وتعبنا، ربما لن يكون لدينا كل هذا البذخ الحكومي في المناسبات والاحتفالات، ولن تكون لدينا كل هذه السرقات للملايين؛ فبمقدار النفط الذي ظهر، ظهرت الرغبة في السرقة، كما ظهرت القضايا التي نُفض عنها غبار الصحراء، ولما رأينا أموالا بالملايين قد صُرفت على مناقصات لا تستحق المبلغ المرصود لها، سوى أنها مُناقصات حكومية تنفَّذ بتفويض من الباطن إلى الباطن حتى تصل إلى أيد لا تعرف للمهارة عُنوانًا، سوى قد نُفَّذ المشروع وانتهى على أي صورة كانت، تلك الأيادي التي تدخَّلت في صناعة هذا الوضع الراهن، والتي ليست بالخفية، ربما لو لم تكن هناك تلك الملايين الواردة من النفط، لم نكن لنراها، أو نسمع عنها، فلا وجود لكعكة كي يتم تقاسمها.

ولو اشتغلنا بأيدينا لإنتاج معيشتنالما كان هذا البذخ الاجتماعي، وكنا سنعي قيمة اللقمة التي نحصل عليها، وسنعتدل في إنفاقنا، واستهلاكنا، وسنتجنب كلَّ هذه القروض التي جعلتْ البنوك تستغل بنسب الفائدة المرتفعة حاجة الناس لتحقق أرباحا كبيرة، في الوقت الذي يحقق فيه أولئك المقترضون مزيدا من القلق والضغط النفسي، ربما كنا لن نتباهى بقاعات الأعراس وولائمها ومجوهرات العروس ومشترياتها، ولا فستانها المصمم في فرنسا أو لبنان أو دبي.. ما كنا سنحتفل بأعياد ميلاد لأطفال في عامهم الأول -وهم لا يعون من الأمر الذي هم فيه شيئا- في قاعات ضخمة، وبوفيهات تصل للآلاف من الريالات.

حينها.. سنظل نعمل ونعمل، في كل شيء، ونستغل كل شيء، لكني لا أعلم كيف سيكون مستوى حياتنا، هل سنكون بالفعل كما تخيلت وحلمت بأن نصنع من مواردنا أداة لعيشنا ونتقدم بها، أو أننا سنكون عديمي الحيلة، وسنظل في قيود جهل استخدام الموارد، واستغلالها لصالحنا؟ هل سنُكمل مسيرة حضارات عُمان عبر التاريخ، ونُسجل صفحات يفخر بها من يأتي بعدنا؟ فأجد نفسي وقد عُدتُ للواقع على قمة الجبل الأخضر؛ حيث يسجل الإنسان العماني على سفوحه الخضراءمشهد الصراع الخالد بين الإنسان والطبيعة، من أجل تطويعها لإعطائه الحياة الكريمة التي تليق بإنسانيته، التي يقودها بعقله الذي وهبه الله إياه من أجل استخدامه للرقي بحياته حسب المعطيات الظاهر منها والباطن، الذي يحتاج إلى التنقيب والتفكير للوصول إليه، قوة الإنسان العقلية والبدنية هي التي طالما شقت الطريق من جيل لجيل في هذه الحياة؛ فمن أراد الحياة الكريمة سعى لها سعيها، وعمل من أجل العيش واستغلال ما لديه بصورة فعالة؛ ليُسجِّل بها تحدي شعب لواقع صعب من أجلالعيش بكرامة.

وفي الواقع، لم أعد أشعر بذاك التنميل، ربما لأنَّ تلك الأفكار أصبحت جزءا من قناعاتي، وأنا على ثقة بأن العماني قادر على أعمال أكبر من شق الجبال؛ فلو بنينا على ما نحن عليه من بنية أساسية، فلن نسقط أبدا، ولن نوهن، وسنستمر ونحن أقوياء، فما النفط إلا مساعد لنا في مرحلة من تاريخنا.

Zainab_algharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك