فن البحرين: "أبداً بلدنا للنهار.. بتحب موال النهار"

عبيدلي العبيدلي

يصل الزائر مبكرا بعض الوقت إلى النسخة الأولى من معرض "فن البحرين" كي يكتشف أن أمامه طابورا سبقه إليه عشاق الفن ممن ينتظرون لحظة الافتتاح، التي ما إن حانت حتى تدفقوا كسيل عارم يبحث عن موقع قدم تمكنه من التمعن في عشرات اللوحات التي تناثرت في تناغم ملحوظ رصت بجمالية واعية فوق جدران أجنحة المعرض.

للوهلة الأولى يفقد الزائر توازنه وسط تلك اللوحات التي جمعت مدارس فنية مختلفة، وبعضها متضاد. فمن الانطباعية المباشرة المحظة، إلى السريالية الممعنة في التجريد، ومعها التكعيبية. وحرص المعرض على أن يكون بين اللوحات فئة نهلت من معين المدرسة التعبيرية. كما يجد الزائر حضورا، وإن كان محدودا للوحات ملكت بعض الجرأة فبرزت بين معالمها خطوط المدرسة "الوحشية" أو المتوحشة، كما يحلو للبعض أن يطلق عليها. وأخيرا، يفوح من ثنايا بعض اللوحات عبق رائحة المدرسة التعبيرية التقليدية التي تزاوجت مع مكونات لوحات أخرى أبدعت فيها ريش المدرسة الرومانسية، فحفلت بصور العواطف المتدفقة التي لم تخلو من المشاعر التلقائية العفوية، معبرة في بعض جوانبها عن تجارب شخصية للفنانين الذين قاموا برسمها.

تتماهى هذه الخلفيات "المدرسية" مع تعدد ملحوظ لجنسيات الفنانين المشاركين، التي انتشرت فشملت كل القارات، مع إفساح حيز ملحوظ لريشات الفنانين العرب، ومن بينهم أخوتهم الفنانين البحرينيين. ولا بد من التوقف هنا عند الفن الفلسطيني، الذي جاء حضوره كي يؤكد للعالم أن جرائم الكيان الصهيوني، ومجازره التي يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني، لم تفت في عضد هذا الأخير، الذي أشعر العدو الصهيوني، قبل العالم، أن صموده المستمر في وجه بطش ذلك الاحتلال، لم يجرده من حسه الفني المرهف الذي جسد جوانب كثيرة من مشاعر الفلسطينيين التي مكنتهم من الارتقاء بفنهمكي يشاركوا في فعاليات فنية تتمسك بقيم دولية. وينحو المعرض منحى تقدميا ملحوظا عندما يقاس حيز الحضور الواسع نسبيا للفنانات، بمن فيهن الفنانات البحرينيات، الذي ينشر بين جدران قاعات المعرض رائحة عطر نسائية فنية مميزة.

لكن ما أن يفيق الزائر من الصدمة الإيجابية التي هزت مشاعره عند الوهلة الأولى تلك، حتى يأخذ في استعادة توازنه الطبيعي بشكل تلقائي، كي يجد نفسه أمام أقرب ما يكون إلى باقة ورد تناسق عرض زهورها في أجنحة احتضنت، كما تحتضن الزهرة بتلاتها، أعمال كل فنان أو فنانة على حدة. وأحيانا يجد الزائر نفسه كمن يسير في طريق تحف به نخل باسقات غرستها ريشات الفنانين الذين رسموا تلك الجداريات الضخمة التي توزعت على حيطان الأجنحة فأخذت أشكالا صنوانية عندما تكون لفنان واحد، وغير صنوانية عندما تتجاور جداريتان ضخمتان لأكثر من فنان.

يستحضر المعرض، بلوحاته، في ذهن من كان يتابع الحركة الفنية المصرية في الستينات، أغنية "عدى النهار"، من تأليف، وتلحين، وغناء، ثلاثة من عمالقة الفن المصري الذين رحلوا. فقد كتب كلماتها عبدالرحمن الإبنودي، وقام بتلحينهابليغ حمدي كي يشدو بها عبدالحليم حافظ.

جاءت تلك الأغنية في خضم معارك حرب 1967 التي اندلعت بين العرب والكيان الصهيوني، وفي مرحلة أصيب بها العالم العربي بصدمة هزيمة تلك الحرب، حتى أصبحت تعرف بالنكبة.

يستهل الأبنودي قصيدته التي حرص على أن تكون باللهجة المصرية الدارجة، قائلا:

((عدّى النهار والمغربية جايّة

تتخفّى ورا ضهر الشجر))

إلى أن يقول:

(وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها

جانا نهار مقدرش يدفع مهرها

يا هل ترى الليل الحزين

أبو النجوم الدبلانين))

إلى أن يصل القمة منتشيا:

((تحلم بلدنا بالسنابل والكيزان

تحلم ببكره واللى حيجيبه معاه

تنده عليه فى الضلمة وبتسمع نداه

تصحى له من قبل الأدان

تروح تقابله فى الغيطان

فى المصانع والمعامل والمدارس والساحات)).

الرابط بين لوحة الثلاثي: الأبنودي، بليغ، وعبدالحليم، ولوحات المعرض، هي تشابه الظروف الاستثنائية التي عاشتها مصر إثر تلك الحرب، إلى حد بعيد مع الظروف، رغم الإختلاف في الأسباب، والنتائج المباشرة، التي يمر بها العالم العربي بمختلف بلدانه اليوم.

حينها كان الأبنودي يحاول أن يؤكد أن مصر تماما مثل الفتاة حين تغسل شعرها "وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها"، ستظل رافعة رأسها، وليس هناك من قوة بوسعها أن ترغمها على الاستسلام "جانا نهار مقدرش يدفع مهرها"، ومن من ثم فمن غير الممكن ان تقبل بالهزيمة أو تستسلم لشروطها "يا هل ترى الليل الحزين"، وبالتالي فمصر صامدة ومصصمة على الانتصار.

((واحنا بلدنا ليل نهار

بتحب موال النهار

لما يعدي فى الدروب

ويغني قدّام كل دار))

صدى صوت عبدالحليم كانت تردده لوحات المعرض وهو يدندن "أبداً بلدنا للنهار..بتحب موال النهار"، لكن بلدنا هذه المرة كانت البحرين، دون التقليل من عشقنا لمصر الحبيبة.

خلاصة قول الزائر وهو يرغم نفسه على مغادرة قاعات خيمة المعرض، الذي لا يمكن أن تشفي المتعة زيارة يتيمة واحدة، هي الإشارة إلى الأهميةالخاصة التي يتميز بها هذا المعرض بالذات، عن الكثير من المعارض الأخرى غيره، وهي كون إحدى شركات القطاع الخاص التي تنتمي للفئة المتوسطة أو الصغيرة هي التي بادرت، بمؤازرة شركات أخرى من القطاع الخاص، دون إغفال دور ومشاركة مؤسسات حكومية وشبه حكومية ليس هنا مجال سرد أسمائها، في خطوة جريئة فريدة من نوعها في تحويل البحرين إلى إحدى الدول التي يقام فيها معرضا فنيا عالميا بمثل هذا المستوى الدولي، الذي ينتمي له "فن البحرين".

تعليق عبر الفيس بوك