"أبو العُرِّيف" لا يرتبك

رحاب أبو هوشر

هذا "العبقري" يرى في وجوده بيننا نعمة لنا، وإضافة نوعية على الحياة. إنه موسوعي المعلومات والثقافة، لا يُعيقه مجال أو موضوع. خبير في أي شأن صحي أو سياسي أو اقتصادي، وفي الأدب والفن له تجارب وآراء أيضا، وفي جعبته الدينية ما لا يخطر على بال. لا يثق إلا بمعلوماته وآرائه، ويشكك بقدرات ومصادر أي شخص يقول قولا مختلفا، ويرى في نفسه مرجعا يجب على الآخرين الإصغاء إليه والتعلم منه؛ فهم ليسوا إلا ناقصي -وغالبا عديمي- معرفة. ولا يتورَّع عن منافسة الأكاديميين في مجالاتهم العلمية والأدبية، والمتخصصين في أدق تفاصيل تخصصاتهم، كيف لا وهو يتميز بقدرة استثنائية على المجادلة والمساجلة في أي موضوع منذ طلوع الشمس وحتى مغيبها، لا يكل أو يمل في تفنيد كل ما يدور حوله.

شخصية نموذجية، تتوافر بكثرة حولنا، في الشوارع والمؤسسات والأسواق والجامعات والمقاهي. ليست طارئة أو مستحدثة، بل امتداد تراثي لشخصية "أبو العُرِّيف" أي الجامع للمعرفة، الذي كان الناس يهرعون إليه، بوصفه عالما وخبيرا في أي مجال، فهو الحلاق والطبيب و"مطهر" الأولاد وشيخ الدين والمتعلم قارئ الكتب والقاضي الحكيم...إلخ. تغيَّر واقع الناس وتطوَّرت احتياجاتهم بفعل العصرنة، وانفتحوا على مجالات المعرفة، وبقيت شخصية "أبو العُرِّيف" تحتل مساحة واضحة في فضاء المجتمع، محافظة على جوهر تكوينها ومدلولاته الثقافية والاجتماعية.

ومع فارق المعطيات الموضوعية، تبدو فرادة هذه الشخصية باجترائها على كل شيء، وثقتها العمياء بحيازتها للمعرفة والثقافة، وأدائها العدواني للبرهنة على تفوقها وإلحاق الهزيمة بالطرف المقابل، فأبو العُرِّيف لا يباريه أحد، ولا يخضع لأي إطار تصنيفي، لأنه يجمع التخصصات كلها، ويستخف بالمتخصصين وما يدعوها فذلكاتهم.

ورَغْم أنَّه يمقُت العلم ويرى في العلماء كفارا أو مجانين، إلا أنه لا يتورع عن تحليل ظروف وأسباب وجود الماء على كوكب المريخ، وفق ما أعلنت وكالة "ناسا" الفضائية. لا يفوته شيء، فهو مثقف في علوم الذرة والفضاء أيضا! ورغم أنه لم يشارك حتى في الفرق الكشفية في مرحلة دراسته الابتدائية، وقضى حياته الجامعية بين المحاضرة المقررة والكافتيريا للتثاؤب والنميمة وشرب الشاي، ولم ينبئ عن موهبة ولو بكتابة خاطرة أو صياغة خبر في جريدة "الحائط" المدرسية، ساخرا من زملائه غريبي الأطوار، لاهتمامهم بهوايات كالموسيقى والكتابة والرياضة، لكنه إذا وجد في وسط مهتم بالثقافة، لن يتردد في تقديم آرائه النقدية في الأدب والموسيقى والدراما.

"أبو العُرِّيف" مُدَّع كبير، يستعير الآخرين وملامحهم وأدواتهم، فشخصيته شاحبة بليدة تفتقد للمخيلة والشجاعة، وقدراته الفعلية ضئيلة. كان دائما في منأى عن محيط زملائه الناشطين في القضايا الطلابية، أو المهمومين بالعمل السياسي، وظل لا يعرف العمل العام أو يؤمن به، ولكنه كما أسلفنا عابر للتصنيفات، فإن لم يكن محللا سياسيا أو خبيرا إستراتيجيًّا؛ فهذا لا يمنع أن يجمع حوله أكبر عدد من المستمعين لتحليله حدثا سياسيا. سيقدم استنتاجاته الحاسمة باطمئنان المتمرس. يتوقع النزاعات والتسويات السياسية، يخوض حربا وينهيها ويوزع الهزائم والانتصارات، وهو يتسامر ويشرب القهوة معهم. ولا يجرؤ أحد على وصف تحليله بالقصور المعرفي أو بالجهل، فأبو العريف لا يتهاون مع أي استهانة بذكائه وقدراته، وجاهز لخوض المعارك لإثبات معرفته الكلية، رغم أنه معاد للكتب والقراءة، ويسخر ممن يضيعون أوقاتهم وأعمارهم في "صف الحكي"، لكن "الجاهل لا يرتبك" كما قال الراحل أنسي الحاج.

ربما يكون "أبو العُرِّيف"، الشخصية الأكثر تعبيرا عن حال مجتمعاتنا، والأكثر تفسيرا لمقاومتها محاولات مراجعة وتغيير بنيتها الذهنية والثقافية، وتطوير منظومة سلوكياتها وعلاقاتها؛ إذ لا حاجة لمجتمع يرى كثيرون فيه أنهم يحوزون معرفة تامة، ويشكلون قناعاتهم ومواقفهم وفق معرفتهم الشاملة الجامعة تلك، إلى الأفكار المعرفية والثقافة، وتجربة أو تبني أدوات أو أساليب جديدة في ممارسة النقد الفردي والجمعي.

ثقافة "أبو العُرِّيف" كسلى عن البحث والقراءة، وتعتمد النقل والتبادل السمعي، فكل ما تسعى إليه هو الحماية. إنها تعكس ذاتا هشة جريحة بإدراكها العميق لقلة معرفتها، تعوض جهلها بالإصرار على نفيه، واعتبار الإقرار به أو اطلاع الآخرين عليه إهانة شخصية. الممتلئ لا يحرجه أو يهينه قصور أو جهل بتخصص أو موضوع، ومن يدرك ماهية المعرفة يعلم أنه سيظل جاهلا كلما أوغل في عالمها، علاوة على إيمانه بتفاوت القدرات والإمكانات والاهتمامات. والإهانة الحقيقية تكمُن في احتقار المعرفة وأدواتها، مع ادعائها دون امتلاكها، ودون بذل جهد حقيقي للسعي نحوها.

تعليق عبر الفيس بوك