سارقون "أتقياء"

رحاب أبو هوشر

عندما يفقد الجامع رمزيته الروحية -باعتباره مكانا للتعبد والصلاة تقربا إلى الله- ويصبح مثل أي مكان عام آخر، عُرضة لسرقة مقتنياته من قبل "مُصلين"، ويفقد المصلون فيه الشعور بالأمن، فلا يحملون ما لا خشية سرقته أثناء الصلاة، أو يفقدون "تركيزهم" وخشوعهم قلقا من أن يكون "المصلِّي" المجاور لأحدهم سارق هواتف نقالة، إذن لا بد من الاعتراف بأنَّ العلاقة عكسية بين تدين اجتماعي مفرط وجوهره الروحي الأخلاقي، والأهم أن التدين وحده لا يصلح معيارا أخلاقيا.

نتساءل عما كان عليه الناس وكيف أصبحوا، كيف فقدوا بساطتهم ونقاءهم وقناعتهم، مقارنين بماض ليس بعيد، كان الناس فيه عفيفين خيِّرين رغم صعوبة عيشهم وقلة مواردهم، صادقين ومستقيمين، وبيوتهم مشرعة آمنة؛ فالسرقة كانت نادرة وتعد جرما أخلاقيا مريعا. ونظل نتساءل في منازل مغلقة بالأقفال والمفاتيح، عن تبدد منظومة قيم إنسانية واجتماعية، كانت تحمي الأمن والسلم الأهليين.

والتحول يمكن فهمه، في مجتمعات تخلع ثوبها الأخلاقي قطعة قطعة، وتسيطر عليها أنانية متوحشة لا تعترف إلا برغباتها ونزواتها: فساد ذمم ورشى، سرقة ونهب في وضح النهار، "فهلوة وشطارة" هن شقيقات النصب والاحتيال، وهن حاليا مقومات النجاح أيضا. كل ذلك وما زلنا ننظر حولنا بدهشة بلهاء، متسائلين عن مصدر هذا الخراب الذي نخر جسد المجتمع، مُصرِّين على كونه غريبا عنا، وعن مجتمعاتنا الفاضلة وأخلاقنا!

والواقع لا يكف عن السخرية من المندهشين، فقد انفجرت صمامات الأمان، وتعطلت صفارات الإنذار، ولا تلوح نجاة في المنظور القريب، أو اهتمام جدي بالإنقاذ. وليس هناك إلا مزيد من العطب الأخلاقي وفقدان الأمن والأمان، طالما بقيت العيون معصوبة بعجزها حينا، وبقرار واع أحياناً أخرى عن رؤية الواقع؛ فالظروف الموضوعية للبشر -اجتماعية كانت أو اقتصادية وسياسية- هي ما يصوغ أخلاق البشر، ومن العبث الاكتفاء بربطها بأفكار مجردة، وإيمان ديني لا يتجاوز أداء الشعائر والطقوس، فأسراب الناس التي تهرع كل يوم للصلاة في المساجد أو الكنائس، منهم يخرج من يمارسون الكذب والتزوير والسرقة والتحايل على القوانين، ومن يقدمون الرشى ويأخذونها، أو يسطون على حقوق الآخرين، ويعتدون على المال العام والممتلكات العامة، ومنهم أيضا من يرتكبون موبقات وكبائر، تتنافى مبدئيا مع تدين مفترض، وصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

كانت أخلاق الناس بخير؛ لأنَّ حياتهم كانت معروفة الملامح والآفاق، لم تكن قد انفتحت على عوالم أخرى، ولم تشتبك مع أنماط عيش مختلفة. حاجاتهم كانت محدودة، وعيشهم متاح نسبيا، والرغبات والغرائز هاجعة غير مستفزة. لم يكونوا يعلمون الكثير عن عالم آخر من الأموال والثروات في الخارج وداخل بلدانهم أيضا، ولم يكونوا يعرفون مصدرها أو كيف يتم إنفاقها، كانوا بعيدين عن مرمى المشهد الكوني. في ظل العولمة وثورة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات، تخلخل عالمهم المحدود، ويتعرضون كل دقيقة لقصف إعلامي كوني، زاخر بالترف والبذخ ومظاهر الاستهلاك الجنوني، ثم يرتطمون ببؤس واقعهم، وكوابيسهم اليومية، بطالة عالية، وتضخم يضاعف الأسعار، ويؤدي إلى تآكل الأجور القليلة أصلا، طموح جامح وفرص شحيحة، لتسقط الأخلاق صريعة تحت ضربات الرغبات والحاجات التي يغذيها إعلام لا يعبأ إلا بزيادة أرباحه، ولو انهارت مجتمعات كاملة.

الأخلاق ليست مادة ثابتة جامدة، بل تشكلها المخاضات التي يمر بها الفرد والمجتمع، عند كل مفترق سياسي، أو تحول اقتصادي واجتماعي، وتأخذ صورتها المتردية الصارخة، عندما تضيع البوصلة، وينهار النظام بقوانينه ومؤسساته، وتسود الفوضى والاستقواء، وتهدر الأموال المنهوبة على موائد السفاهة والهدر، بينما ينبش أطفال القمامة بحثا عن كسرة خبز، وتسقط نساء في وحل التسول والدعارة، ويهرب شباب متبطل، من العدم وانسداد أفق الحياة في واقعه إلى العدم في هلوسات المخدرات، أو ليصبح مجرما صغيرا بائسا، يمارس النصب والاحتيال، ونشل حقائب السيدات، أو حتى حبل غسيل وأسطوانة غاز.

فعندما تغيب العدالة، وتعاني المجتمعات من فجوة طبقية ساحقة، لا بد أن تسحق معها البشر، وتهشم قدرتهم على الصمود، بعد أن تهشم طمأنينتهم، ومقومات عيشهم الأولية، في الأثناء ستعمل على تشويه قيمهم، وتلتبس معايير الأخلاق وتفقد أهميتها الإنسانية، بفقدان ما هو أكثر إلحاحا لدى البشر، بتلبية احتياجاتهم الأساسية، لتحقيق أمنهم المعيشي. تنحسر مساحة الأخلاق، عندما ينحسر ما يحفظ للإنسان قيمته وكرامته الإنسانية، ويطل الحيوان الرابض داخل كل منا، في مناخ تهيأ له تماماً، عندها لا تفقد الأخلاق قيمتها وتأثيرها، بل قد تصبح عبئا، يسارع البعض إلى التخلص منه.

وفي الحديث عن الأخلاق، لا تكفي الشعائر الدينية وأحاديث التقوى والثواب والعقاب، فلم تفلح خطب الجمعة في المساجد طوال سنين، في كف يد سارق كبير عن جيوب المصلين، أو سارق صغير عن سرقة أحذيتهم!

تعليق عبر الفيس بوك