رنين أجراس

أحمد الرحبي

هل يُمكن القول بأنَّ انتصارنا وعد بمذلة للآخر؟ لكن هل هناك انتصار يمكن أن يتحقق دون هذه المتعة السادية التي تتحقَّق للمنتصر على حساب مهزوم بات كقدر مقدر عليه أن يتلقَّى في استكانة وذلة، صفعة الانتصار عليه، ذلك الانتصار: حيث ترفرف راية خفاقة بينما تسقط الراية الأخرى ممرَّغة في التراب؟

ولو تصوَّرنا افتراضا أنَّ هناك نوعا نبيلا من الانتصار، ألا يبقى منقوصا هذا الانتصار الذي لا يُشكل النبل الذي يتَّصف به في الواقع إلا قيمة مضافة على الانتصار فيما يظل المهزوم موتورا منهما معا: النبل والانتصار؟ لكن ألا يمكن أن ننشد تحقيق نصر دون خصم؛ حيث ليس من محرض عليه إلا ذاتنا، فلا يقع تحمل عبء هذا الانتصار على ذات مناوئة، متضررة به ابلغ الضرر كحقيقة واقعة؟

***

قرية الطفولة أو الذاكرة الموحِشَة حول هذه القرية تبدو كما لو أنها ذلك الجدار القديم المنسي المتهدم، الذي دفنت تحت أساساته كنزك الثمين وأنت في الحقيقة لست بحاجة مادية -نفعية- إلى هذا الكنز بقدر ما أنت بحاجة إلى الاحتفاظ به معنويا وصونه من التهدم كضمان أن لا ينمحي أثر كنزك أو لا ينكشف مخبأه في الأسفل للسراق واللصوص الذين هم هنا بطبيعة الحال، معادل للنسيان وافتقاد الذاكرة الحميمة المرتبطة بالمكان.

***

المعرفة تغدو شيئا فائضا لا لزوم له أمام الخيال الخصب؛ فمن السحر أنْ لا تعرف عن مكان ما، في الوقت الذي يدعي فيه الآخرون إحاطتهم بالمعرفة التامة حول هذا المكان بينما هو بفضل تخيلك له، أصبح مكانك أنت لا يفصلك عنه شيء وقد تملكته بخيالك، فسحر المكان يظل في ممانعته عن الانكشاف والمعرفة به، فليس أكثر إثارة للخيال من الاعتقاد بأن هناك ثمة جزيرة مجهولة ضائعة في المتسع الشاسع للمحيط لم يرتدها بعد سفين أو شراع.

***

تبقى حاجتنا للفن كقيمة جمالية رفيعة، ضرورية في الحياة التي نعيش؛ وذلك للرقي بطرق حياتنا والسمو بها إلى درجة أعلى من الضرورات والحاجات الاستهلاكية والرغبات والمتع الحسية المباشرة، وتخطيا بها إلى مستوى راق من التذوق للجمال المطلق والقيمة السامية للحياة الإنسانية.

... إنَّ الحضارة والقيم الأساسية المهمة والحقيقية التي تنبني عليها، يشكل فيها مستوى المتعة الفنية والتذوق الجمالي حجر الأساس، حيث تهذيب الذوق وارتفاع مستوى الخيال ورقيه في استقبال الصور الثرية التي تبثها الطبيعة أم الجمال ومهده الأول، من حولنا سمة مهمة للإنسان المتحضر، على ذلك فإنَّ الفن لا يعتبر ترفا في حياة الإنسان أو مكملا استهلاكيا فاقد القيمة.

***

الإيمان بقيمة ذاتية للنفس منوط بترجمته وتحقيقه العمل كإنجاز، والإبداع فيه ضمن مجال واهتمام معين، تصب فيه مجمل الطاقات والقدرات الذاتية، أو تسخر في سبيل الوصول إليه وتحقيقه في شكل من الكمال يشارف درجات من الرضا الذي توفق فيه الذات بالموازنة بين ما تطلب وتطمح إليه وبين ما حققته وأنجزته هذه الذات في محيط اهتمامها ومجالها.

***

الثرثار هو دائما من لا يراعي في كلامه علامات الترقيم فلا يتوقف مثلا عندما يكون هناك من المفترض نقطة في نهاية الجملة ولا يلتفت بأدنى اهتمام إلى التعجب والدهشة على وجوه مستمعيه ولا يهتم بعلامة الاستفهام الكبيرة التي ترافق ثرثرته المتشكلة من جرَّائها، إنَّ الثرثار هو مجرد أمي في إشارات الكلام، يعرف الثرثرة المنفلتة بالكلام ولا يعرف إشاراته الدقيقة.

***

قيل بأنَّ السؤال هو ثمرة المعرفة والمعين الذي لا ينضب الذي تغترف منه المعرفة الإنسانية دائما طابع تجددها المستمر وتطورها الزمني، وكل سؤال يطرح في حينه فلا يمكن تأجيل الأسئلة، على ذلك يمكن القول بأنَّه لا توجد أسئلة سابقة لأوانها، فكل مرحلة زمنية محملة بأسئلتها؛ فهناك سؤال مرحلي أو أكثر لكل مرحلة زمنية يتم طرحة يبحث عن جواب، يمكن القول أيضا بأن أي مرحلة زمنية تبدأ دائما بطرح الأسئلة سواء بخصوص تقييم ومراجعة المرحلة السابقة، أو بخصوص التحديات المستقبلية التي تواجه المرحلة الجديدة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التفكير خارج فضاء الأسئلة مهما أوتينا من عمق فكري وفلسفي للقراءة في سياق الأجوبة المقدمة على أسئلة سابقة؛ فقد تكون تلك الأجوبة قد أدت الغرض في حينها، وقد تكون لم تعد تشفي الغليل ولابد من مراجعتها على ضوء أسئلة جديدة، أو تكون هذه الأجوبة دخلت في سياق التراكم الفكري والمعرفي وانتهت إلى هذا الحد في أداء مهمتها، ويمكن تشبيه العادة المتأصلة لطرح الأسئلة لدى الإنسان برنين الجرس المعلق في رقبة البقرة؛ فهو رنين مستمر يظل يتصادى عاليا في بصوته طلما البقرة مستمرة في حركتها، رنين بقدر ما يثير من جلبه فهو يلفت الإنتباه، ويظل الإنتباه إليه والتفاعل معه مستمرا على الأقل سماعيا.

ولا يُمكن تقييم الأسئلة فيما من الضروي ومن الأهمية بمكان تقييم الأجوبة المعطاة وذلك لكي نمتحن مفعوليتها ونختبر إمكانية صمودها منطقيا، ولا يتأتي ذلك في الحقيقة إلا بتعريضها لمرشح غزير من الأسئلة التي تتناول المادة الخام لهذه الأجوبة تقليبا وتمحيصا وفحصا فيها بشكل مجهري، وهو ما يصل بنا الى مفهوم صدم الأسئلة بعضها ببعض تماما كما يحدث في الفيزياء الذرية عند صدم الذرات بعضها ببعض لكي نخرج من جراء ذلك بطاقة نووية هائلة، في الأخير قد توجد هناك أسئلة معلقة بدون التوصل لإجابة لها على مدى زمني طويل وذلك ما يجعل من هذا الضرب من الأسئلة، أسئلة عابرة للمراحل الزمنية، متجددة الطرح دائما.

تعليق عبر الفيس بوك