فواتير الغد الفادحة مدفوعة مسبقا

رحاب أبو هوشر

الأنظار مشدودة إلى قسوة المشهد العربي الدامي، في اليمن وليبيا والعراق، وسوريا على وجه التحديد، وبالرغم من خطورة النتائج السياسية لهذه الفوضى التدميرية على مستقبل تلك البلدان ككيانات سياسية موحدة، إلا أنَّ ثمة فاتورة مجتمعية فادحة يتم دفعها على وقع الصراعات المسلحة وأعمال التفجير، وفداحتها ليست فقط فيما ترتب عليها حتى الآن، من تدمير البنية الأساسية في تلك البلدان، أو بحركة النزوح واللجوء، أو حتى بما حلَّ ببنية الدولة ومؤسساتها، بل علاوة على كل ذلك، هناك الأخطر وهو ما حل بالبنية الاجتماعية من تفسخ وانهيار، وما سيترتب على ذلك من صعوبة إعادة بناء الحياة وإنسانها؛ فالحروب لا تكتفي بدماء الضحايا، بل تفتك بمفاصل الحياة. يفقد الناس مقومات معيشتهم، وتختل أولوياتهم وقيمهم، وتتفكك الأسر، ويحرم الأطفال من التعليم، وتتعطل قطاعات الإنتاج. الحرب تقتل الأمل، وتتحول معها الحياة من فعل يصبو إلى المستقبل، من خلال مواصلة الاهتمام بنوعية الحياة تعليما وعملا وإنجازا، إلى عبء منهك من أجل البقاء فقط.

لن يكون السبعون لاجئا الذين قضوا في شاحنة تهريب مغلقة على حدود ألمانيا آخر المآسي، ولن تقتصر فواجع اللجوء السوري على من لقوا حتفهم في قوارب الموت منذ اندلاع الحرب، أو الطفل الغريق الذي لفظته الأمواج على شواطئ تركيا، في الصورة التي سبَّبت إحراجا للدول الأوروبية أمام شعوبها، أو أولئك الواقعين تحت رحمة ثلج الشتاء وقيظ الصيف في مخيمات الأردن وتركيا. الفاجعة الأكبر فيما سيترتب على هذا الشتات من انهيار سيطال مستقبل بلد عريق وعظيم مثل سوريا، عندما تفرغ من معظم أبنائها، المزارعين والحرفيين والمهنيين والمثقفين وغيرهم، من الطاقات الإنتاجية التي يمكنها إعادة البناء.

وبالنسبة للاجئي أوروبا أنفسهم، فهم يعانون عوضا عما لاقوه من ويلات حتى الآن، من ضبابية مستقبلهم في بلدان اللجوء، فما زال وضعهم قيد التفاوض بين دول أوروبا، بما يتفق مع حسابات ومصالح وهواجس كل دولة منها، فربما يتم وضع اللاجئين داخل مناطق معزولة خارج المدن، ليعيشوا ظروف السجناء لا أكثر، ويحرم أبناؤهم من فرص حياة أفضل، وقد يجري استيعابهم داخل المجتمع، ولكن لينضموا إلى من سبقهم من المهاجرين العرب، على هامش الحياة الأوروبية، ويكون مستقبل أبنائهم الفقر وقلة التعليم والبطالة أو الأعمال الدنيا، خصوصا وأن نسبة منهم قدموا من الأرياف، والزراعة عملهم الأساسي، ويعانون من الأمية أو نقص التعليم. ففي تصريح لوزير الداخلية الألماني لصحيفة "دي تسايت" الألمانية، قال: إنَّ "عشرين بالمائة من اللاجئين البالغين القادمين إلى ألمانيا أميين"، متخذا من هذه المشكلة سببا لإمكانية رفض قبولهم كلاجئين، في إشارة لما يمنحه القانون الألماني للاجئ من حقوق. وأضاف بأنه لا يجب النظر إليهم من زاوية اقتصادية، أي مدى الاستفادة منهم في سوق العمل، ويقترح ضرورة التفكير في طرق تمكن هؤلاء اللاجئين من الحصول على إقامة شرعية بعيدا عن منحهم صفة "لاجئين" قانونيا.

وفي مخيمات الأردن وتركيا، تبدَّلت الأولويات والقيم الأخلاقية أمام وحشية ظروف اللجوء. طوال السنوات الماضية، استثمر تجار الرقيق الأبيض في المأساة، وعقدوا صفقات شراء صغيرات لأثرياء عرب تحت عنوان الزواج. بدلا من أن يكن في المدارس يتعلمن القراءة والكتابة، ويمارسن الرسم والرياضة مثل كل الأطفال، قامت أمهات أو آباء ببيع طفلات بمبالغ مالية، قد تمكن الواحد منهم من الإنفاق على بقية العائلة، أو معالجة مريض أو شراء ملابس لعراة ينتظرهم ثلج الشتاء.

كانتْ سوريا إلى ما قبل "الثورة"، قِبْلة كثير من الطلاب العرب للدراسة الجامعية، لصرامة وجودة تعليمها العالي، وهذا لم يكن طارئا حديثا، بل امتدادا لعراقتها الثقافية والحضارية، واهتمام السوريين الكبير والمبكر بالتعليم، لا سيما وأن التعليم كان مجانيا وإلزاميا حتى المرحلة الثانوية، واليوم تحدق الأمية بنسبة كبيرة من الصغار، ويفقد غيرهم فرص التعليم العالي. أن ينشأ جيل جديد من الشباب، غير متعلم، ومهشم القيم وفاقد لذاكرته الحضارية والتاريخية، هدف بذاته لهذه الحرب، ولا يقل أهمية عن هدف تقسيم سوريا سياسيا وتدمير مقدراتها، فالمطلوب إخراج سوريا من خارطة المستقبل.

الحال نفسه ينطبق على العراق، الذي توعد "بوش" قبل الاحتلال بإعادته إلى العصر الحجري، فبعد أن كان يتقدم عالميا في مستويات التعليم وجودته، ونجح في القضاء على الأمية لتبلغ نسبتها قبل الاحتلال الأمريكي 0.2%، أشار إحصاء صادر عن وزارة التخطيط العراقية ومنظمة اليونسكو إلى أن الأمية في العراق اليوم تبلغ 20%، في ظل فشل الدولة وانقسامها الطائفي، والفوضى الأمنية، والفساد المستشري في كافة القطاعات، بما فيها قطاع التعليم. انتشرت الرشى وتزوير الشهادات، وتدنى مستوى التعليم بعد هجرة الكفاءات التعليمية والجامعية وسيطرة المتدينين/ الطائفيين وخطابهم على كافة مجالات الحياة. مناخ أدى إلى ردة ثقافية واجتماعية، وأصبح مألوفا في مناطق ذات صبغة دينية، أن تخرج فتيات دون 15 سنة من المدارس لتزويجهن، كما ترتب على زيادة الفقر غير المسبوقة تفشي الأمية وزيادة نسب التسرب من المدارس، في عائلات كبيرة العدد فقدت معيلها، ولم تجد خيارا إلا دفع أبنائها للعمل على حساب تعليمهم، وبلا أمل في مستقبل.

تعليق عبر الفيس بوك