طفل من القرية

أحمد الرَّحبي

في زيارة إلى القرية -الأسبوع الماضي- اقترحَ عليَّ أحد الأصدقاء هناك أن نقوم بجولة، ننفذها مشيا على الأقدام تحت أشعة قمير بازغ في السماء، يغسل بضوئه الفضي عكرة الظلام الذي يلف عادة الدروب والطرقات في القرى، مُكتنفا المكان والأشياء بسحره الأخاذ.. قطعنا فيها القرية من أقصاها إلى أقصاها، وهي مسافة ليست باليسيرة، وكان الحديث الذي تبادلنا أطرافه خلال هذه المسافة الطويلة، يصب جله على بعث الذكريات المرتبطة بالمكان الذي كنا ندور في أرجائه تلك اللحظة، وهي ذكريات شكلت عوالم طفولة، تحكم المكان بحكاياته وخرافاته، بخيالها وأمدها بذخيرة من السحر والدهشة، سحر ودهشة كانت معين طفولتنا نحن الذين تربينا في نطاق مجتمع القرى الريفية، ولم عاد يتعرَّض لها أطفال اليوم المشكلون مسبقا، بفضل مؤثرات خارجية، يلعب فيها التليفزيون الدور الأكبر.

فمن ليل كموج البحر يُرخي سدوله على القرى ويطلق العنان لجنياته وعفاريته لممارسة حفلة الرعب حتى أعتاب الفجر، إلى ليل يُعاش باسترخاء يصل حدَّ الكسل والبلادة، أمام شاشة التليفزيون، الذي "يدلق" حمولته مباشرة في وعي الكبار والصغار، مُكتسحا المسافة التي يحتفظ بها الوعي البشري عادة، عند عملية التلقي وعند التعرض لأي مؤثر خارجي.

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فقد قرأتُ قبل فترة تسجيلا بأسلوب ممتع لعالم القرية المحكوم بالأساطير والخرافات، تناوله سيد قطب في كتابه (طفل من القرية) الصادر في العام 1946، والذي وصفه صاحبه بأنه "أيام من الأيام"؛ في إهداء موجَّه إلى الدكتور طه حسين صاحب كتاب الأيام الشهير، سجَّل فيه بعض القصص المعاشة بطرافة تحت تأثير هذه الأساطير والحكايات، في قريته "موشا" من محافظة أسيوط بمصر في تلك الفترة المبكرة من القرن الماضي؛ فيتحدث عن الطواحين المهجورة والتي كان يعتقد أنَّها مسكونة بالعفاريت، وعن جنيات النيل الذي كان الاعتقاد بأن النهر يحفل بها خاصة عند فيضانه، وعن نوع من العفاريت الطريفة، والذي يتبدى في طرقات القرية وبساتينها في صورة خروف سمين لا راعي له ولا صاحب.

لكنَّ سيد قطب لم ينظر إليها في كتابه هذه الأساطير والخرافات (ربما بتأثير من المنهج العلمي النقدي الذي يلتزم به) إلا كونها وحي الظلام الذي يخيم على (القرى) بعد الغروب، ونتيجة للخيال القروي الساذج، الذي يفسر الظواهر والحركات حسبما استقر عليه من الصور المخيفة والأشباح المجهولة، في حلكة الظلام.

وعودة إلى رفيقي في مشوار بعث الذكريات الليلي في دروب القرية وطرقاتها، فقد أصرَّ هذا الرفيق بعد أن أفضى بنا المشوار بجانب سدرة عملاقة، هرمة تتعلق بها أسطورة قروية بذاتها، بطل هذه الأسطورة عفريت (مغلغل) يرابط، هناك مرابطة مستمرة طوال الليل في محيطها، لا يمكن الفكاك من قبضته، وتجنب شره المستطير إلا بتلاوة آية الكرسي، أصر رفيقي على أن يريني دليلا ماديا ملموسا على إحدى الحكايات المخوفة المشهورة، والمتداولة بين سكان القرية، وهو أثر لكف على أحد أبواب البيوت القديمة، يقال حسب الحكاية إنه لجنية غضبى قامت بمطاردة شرسة، لأحد الأشخاص يبدو إنه تورط لضرورة ما (في ذلك الزمن) في مشوار ليلي متأخر، فحال بينه وبينها في اللحظات الأخيرة الباب، فكان ذلك الأثر لأسطورة باتت تمتلك إثباتا ماديا، لا يمكن دحضه بسهولة.

تعليق عبر الفيس بوك