طلاق فيفيان أمساليم

أمل السعيدي

عندما نبرِّر بعضَالأشياء نُفسدها، كذلك الحال عندما نطلب بعض الحاجات من الأقرباء، الأصدقاء، المحبين؛ لأنَّبعض الأشياء إن تحقَّقت بعد طلبها فقدتْشيئاً من قيمتها وجمالها؛ فجزء من هذه القيمة مُرتبط دائماً بالمبادرة. وبذلك نتوصَّل إلى حقيقة أنَّالأمور قد تسوء لأسباب صغيرة. لقد عبَّر الإنسان مراراً في دعوته للحرية، عن أنَّمتطلبات الحياة تتجاوز الطعام والشراب وتلبية الغرائز. إننا نملك وعياً متطلباً، يجعلنا أمام حاجات تسد فراغات قصية في أرواحنا؛ لذا قد نكون في أمسِّالحاجة لكلمة دافئة، للمسة حانية، لفهم صبور، لثقة حقيقية. ولهذا كله، ننتظر الحب، ننتظر الزواج، نتعرف على أصدقاء جدد.. إننا في بحث مستمر عن هذه المنحة، تلك التي تحمل في ذاتها إجابات لرغباتنا التي لا نريد أن نطلبها صراحة. فإن ارتدت الفتاة فستاناً جميلاً، انتظرت أن تعبر لها عن جمالها، لكن إن هي طلبت منك أن تعلن عن جمالها هذا فكيف ستصدق أن هذا هو انطباعك الحقيقي عنه؟ لعل هذا المثال يشرح ما أردت قوله منذ البداية، لكنَّفيلم(Gett: The Trial of Viviane Amsalem) العبري، لهو إشارة تحمل بلاغة أثيرة، بلاغة حادة يمكنها أن تخترقك كالنصل، فيفيان التي تطلب الطلاق بعد ثلاثين سنة من زواجها في المجتمع اليهودي وأمام القانون الذي لا يعطيها الاعتبار إلا بكونها ثانوية في وجودها؛فالأول هو الزوج، الرجل، الذكر، وعندما يبدأ القاضي (الحاخام) بالبحث في دوافع الانفصال لدى فيفيان يسأل محاميها: هل كانت تتعرض للعنف؟ فيرد عليه المحامي: يجب أن تعرف العنف سيدي القاضي. فإن كنت تقصد العنف الجسدي فلم يكن زوجها يضربها. أجاب القاضي بسؤال آخر: هل كان يلبي احتياجاتها؟ فيرد المحامي: عليك أن تعرف لنا المقصود بالحاجة؟ فيأتي جواب القاضي: لا تتذاكى أيها المحامي، هل كان يصرف عليها المال ويُطعمها؟ فيرد المحامي: نعم كان يفعل. فينتهي القاضي إلى القول: اذن لا دوافع! في هذه المحادثة القصيرة كانت أسئلة المحامي حذقة، تشير إلى أنَّالعنف قد لا يكون جسديا بالضرورة؛ فالتجاهل عنف، والكلمة السيئة عنف، وعدم الإحساس بالشريك ومعاناته عنف أيضاً. حتى الحاجة، إنها تتجاوز المال، تتجاوز الطعام، ولعلَّعينيفيفيان تترجمان كل السنين التي قضتها مع هذا الزوج؛ فهي في بداية الفيلم صامتة، حتى إنها تغيب عن المشهد الأول من الفيلم، كأن المحاكمة لا تعنيها؛ فعلى الرغم من وجودها في صالة المحكمة، إلا أنَّالمخرج يختار أنْلا تكون في الصورة؛ حتى نفهم منذ البداية كيف أن فيفيان تغيب عن هذه الشراكة، حتى نفهم ذلك التضليل الذي أقصاها وحدَّد لها دوراً تابعاً، دوراً ثانوياً على الدوام، لكنها سرعان ما تقول في مشاهد لاحقة: لا أريد العودة معه؛ فأنا لا أحبه. ومع مرور الوقت، نكتشف الأشياء التي حطَّمت هذه المرأة؛ فهذا الرجل لم يفكر يوماً أن يسألها عن حالها، لم يقل لها إنها جميلة، لم يُعبِّر لها عن حبه، لم يعجب يوماً بالطعام الذي تطبخه، لم يفكر أبداً في أخذها لنزهة، لم يشاهد معها فيلماً سينمائيًّا، لم يعطها وردة، لم يحتضنها، لم يلمسها بوداعة، لم يقل لها كلمة طيبة. وعلى الرغم من أنهما أنجبا في سنواتهما الأولى أبناءهما الأربعة، على الرغم من أن فيفيان لا تزال حتى اليوم تسدد الديون المشتركة عبر حسابهما المصرفي المشترك، إلا أنَّهذا كله لم يكن كافياً قط ليجعل هذا الرجل حنوناً ودوداً. لعل بعضكم سيفكر الآن أن هذه هي حاجة المرأة فقط، لكن لا علاقة لهذا بـ"النوع" كلنا نحن البشر نبحث عن هذا الاهتمام، عن شغف الآخر بنا. ولا شاهد على ذلك إلا الفنون والآداب التي أنتجها الرجال، وتشير إلى رغبتهم في الحب. بول إيلورا في كتابه"قصائد حب ورسائل إلى غالا" يقول:

"لن يعرفني أحد كما تعرفيننِي

عيناكِ اللتان كنا ننام فيهما معاً

كانتا تصنعان لأحلامي حظّاً لاتسطيعه كل ليالي العالم

عيناكِ اللتان فيهما آتجوّل تمنحان إشارات الطرق"

نعم... إنَّعينيمحبوبته تصنعان له خارطة العيش، لكن إن غابت العينان، إن احتالت العينان بغير اكتراث، كيف سيسع إيلورا ان يمشي في طرق حياته؟ لقد قضت فيفيان ثلاثين سنة مذ كان عمرها خمسة عشر عاماً بانتظار هذا الاهتمام. عندما سألها القاضي عن سبب زواجها منه. أجابت إجابة قد لا تبدو غريبة بالنسبة لنا في هذه المجتمعات المحافظة، قالت: لأن الناس تتزوج. هكذا جرت العادة إذن، هنالك أفراد كثر لا يفكرون بهذا قبل الزواج، إن لديهم أحلاماً شاعرية عنه؛ فالرجل يظن أنَّه سيجد السكنى، والمرأة تظن بأنها ستنطلق أخيراً بعد كل الأحكام الصارمة في بيت أسرتها، لكن سرعان ما يتكشف الكابوس عن نفسه؛فيعلن الزوج أنه مهزوم، ويشتاق لكونه عازباً فيتهرب مع أصدقائه، يبتعد عن البيت، وتغرق النساء في وحل آخر إما عبر الاهتمام المفرط بالمظهر أو الحديث المسهب مع نساء أخريات، أو التبضع، وكم حدث أن جلست مع نساء يشتكين لي من الزواج، وينصحنني بالابتعاد عنه، على الرغم من أننا نلاحظ توافقاً ظاهرياً بينهن وأزواجهن، إلا أنَّالسعادة بعيدة ولا أفق لها؛ فتنجب المرأة بشكل متتال دون التفكير في صحتها وفي قدرتهما على التربية؛ لأنهما في حقيقة الأمر يبحثان عن التعويض... تعويض الحاجات المسكوت عنها.

amalalsaeedi11312@gmail.co

تعليق عبر الفيس بوك