نعم.. مات العرب

فؤاد أبو حجلة

هل العرب حقا أمة واحدة؟ وما الذي يعنيه الانتماء إلى هذه الأمة؟

رُبما حان الوقت للتحلُّل من الشعار ومن الصياغات الإنشائية البلهاء التي تحشر الشامي والمغربي في هوية قومية واحدة، نؤكد الولاء لها بالقصائد والأغنيات، والأمنيات الحالمة.

دعونا نُواجه الواقع ببعض الشجاعة، ونعترف بأننا لسنا أمة بالمعنى العلمي للكلمة؛ فلا العرق ولا الدين ولا التاريخ المزعوم يجعل هذه المجموعات البشرية المتصارعة -بغباء قلَّ نظيره في تاريخ العالم- أمة واحدة لها ماض وحاضر ومستقبل واحد.

دعونا نُواجه أنفسنا بصراحة ونعترف بأنَّ الانتماء إلى هذه الأمة المتخيلة لم يعد منطقيا في زمن لم يبق فيه من العروبة غير اسمها، ولم يبق فيه من الإرث التاريخي غير العصبيات القبلية والأصنام التي استبدلنا عجوتها باللحم والدم والاسم البشري!

لسنا أمة.. وربما لم نكن أمة عبر تاريخنا "المجيد"، وما نحن الآن إلا شعوب مُتناحرة تخوض حروبها الشيطانية بقسوة على الذات لم يعرفها أي تشكيل بشري آخر على وجه الأرض.

هل يجعلني الطرح انعزاليا؟ وهل تجعلني الدعوة إلى التحرر من الوهم هدفا لأصحاب الغنائية القومية وغلاة المنظرين للدم الواحد والعرق الواحد والأصل الواحد والمصير الواحد؟

لا بأس، فلم يعُد هناك ما يُمكن أن نخسره في ذروة الجنون العربي الشامل في مشارق العروبة ومغاربها، ولم يبق الصراع الشيطاني المشتعل بين اليمين الديني واليمين السياسي-الاقتصادي ما يمكن أن نخشى على ضياعه من ترابنا ومن أرواحنا.

هذا زمن كسر التابوهات المقيتة، وقد عشنا أزمانا ضالة طويلة ونحن نهتف كذبا ونغني لأمجاد غابرة لأمة تعجز حتى عن حفظ تاريخها الموثق بالنص فقط في كتب المدارس وأدبيات النفاق القومي.

عشنا أيضا وَهْم الاستقلال وحرية الدولة الوطنية التي يقدمها الشعار القطري على غيرها من مكونات الأمة العتيدة، وتبيَّن أننا لا نملك الدولة، بل نعيش ونتنقل بين مشروعات كيانات وطنية غير متحققة بعد في شكل الدولة، ولن يتاح لها أن تتحقق فعلا في ظل استسلامها لمتلازمة القمع والفساد.

وها نحن ندخل مرحلة جديدة في تاريخنا الذي يقال لنا إنه مجيد، وهي مرحلة تتحول فيها الطوائف والعشائر إلى دول، ويتم فيها تفريغ الأرض من أهلها لإحلال الغرباء وتوطينهم في بلاد الذبح والجوع والولاءات المجنونة.. وما زلنا نغني للعروبة!

أمَّا الذين ملُّوا من اللحن التاريخي والقومي الناشز، فإنهم يهربون الآن بجلودهم وما تبقى من أرواحهم.. يهربون بعيدا لكي يحملهم البحر إلى ماوراء البحر أو يموتوا غرقا في القاع المالح، ولا فرق بين المآلين، وكأنهم يستعيدون بيأسهم ما قاله الشاعر البحريني (الانسان) قاسم حداد:

"أيها الحوذي هل تمشي على مهل لكي تنسى

وتمشي كي تؤرخ للدقائق وهي تحتز الوريد القرمزي بشهوة السكين

هل تمشي على مهل وبلا وجل لكي تعطي المقابر فسحة للدفن

يا جبّانة لا تحتويني راكضا بين البقايا

إن لي في سيد العربات ثارات سأحملها على كتف الدروب

قلت: يا جبّانة البحر الفسيحة هيئي سعة لقناصين

يزدردون في مهل نخيل البيت".

إنهم يهربون الآن، يمتطون البحر بفروسية سبارتاكوسية ليحررونا من الموت الرتيب في بيانات التعداد السكاني ومن الموت المحسن باللغة في بيانات الجامعة العربية ومن الموت المزين باللحن في النشيد الوطني.

وهم يهربون الآن من الموت إلى الحياة وهم يهتفون بحنجرة كافكا "بعيدا عن هنا.. ايها الحوذي اذهب بعيدا عن هنا".

هناك.. على الطرف الآخر للبحر، سيغنِّي عرب الألفية الثالثة: "بلاد الغرب أوطاني، من فيينا لبرلين، ومن صربيا إلى مجر إلى روما ويونان".

"سيكون خرابا

سيكون خرابا"

هذه الأمة تحقِّق الآن نبوءة الشاعر العراقي مظفر النواب، وتأخذ درسا في التخريب.

تعليق عبر الفيس بوك