الفوضى العربيَّة

سلطان الخروصي

حينما تُغتال الكرامة والحرية باسم الصالح العام، فيُهان المرء ويُبتذل وتُكال له صنوف العذاب والتنكيل المختلفة؛ فإنَّ في ذلك مبررًا لاندلاع الغضب وبح الحناجر للذود عن الحقوق، ولربما تطوَّر الأمر إلى مشاهد تُعيدنا للقرون الوسطى التي عاشتها البشرية في حبِّ الانتقام والانتفاع الشخصي على عموم العباد، تحت شماعة "مصلحة الدولة"، يبدو أن البوعزيزي الذي جَعَل من جسده الملتهب قربانا تكتويه مظاهر البؤس والإحباط؛ إثر جبروت امرأة -الشرطية فادية حمدي- استحقرت عربته المهترئة فصادرتها وقطعت حبل رزقه ليجعل السابع عشر من ديسمبر 2010 شرارة حارقة ضد الفساد الاقتصادي والترهل السياسي والظلم الاجتماعي الذي تعيشه تونس إبان عهد زين العابدين؛ لينسحب المشهد التونسي بعد حين إلى مواطن عربية أخرى لا تزال شعوبها تعاني من مستقبل فوضوي عارم في ظل بعض الحكومات الاستبدادية التي أحكمت على المواطن إسورة من فضة وأخرى من ذهب، لكنها ألقته في غياهب الجب ذات غسق شديد إذا أخرج يَدَه لم يكد يراها ليجد نفسه يعوم في بحر فسيح.

جميعنا -نحن المواطنين العرب- تابعنا الحراك الثوري الذي بدأ يدك عروش قوم كنا قاب قوسين على تصديق أنهم شبه مخلدين، ليخرج من بطون الموت ثلة من الشباب الطامح للإصلاح والتغيير؛ إذ أثقل كاهلهم التهميش والاقصاء، فلم يرضهم أن تستمر جيوب الفاسدين في سرقة خيرات أوطانهم، ولم يبهجهم رؤية كروش بعض (الهوامير) وهي تعوم في بحر الفقراء فتلتهم لقمة المعدمين ومن تقطعت بهم السبل، وجدوا أن الوقت حان لأن تكشف الأوراق على طاولة الشعب، ويفصح عن الأرقام الفلكية لكثير من الاتفاقيات التي أُبرمت مع العدو والصديق دون أخذ أي اعتبار لركن الدولة الأساس وهو المواطن، استشعروا مدى التخلف التعليمي والتقهقر الصناعي والرجعية الحضارية أمام ما تمتلكه بلدانهم من ثروات هائلة ورصيد تاريخي يبرهن على أنهم أوائل الشعوب الإنسانية التي نهلت منها الحضارات اللاحقة بطون العلم والمعرفة، حينها صدح البوعزيزي -ومن جاء بعده من شباب- في وجه الرجعية والظلم والقهر والتخلف على أمل التنوير وبناء مستقبل زاخر لأوطانهم وشعوبها الناضجة.

لكن يبدو أنَّ المشهد يُعيد نفسه بحرفية مُتقنة ولربما ينطبق على الوضع الراهن المثل القائل: "يا زيد كأنك ما غزيت"؛ فأمام أنهار الدماء الزكية اختلطت دماء نتنة، وأمام التضحيات الطاهرة ولجت فيها مصالح نجسة، وبين غمضة عين وانتباهتها بدأنا نرقب تحولًا في المشهد المدني فيما أطلق عليه "الربيع العربي" إلى دويلات عسكرية يتقلد زمامها جنرالات الجيش ورؤساء الأركان وكأنَّ التاريخ يُعيد نفسَه حول صيرورة مستقبل الدولة حينما يحكمها العسكر ابتداء من الدولة العثمانية وما قبلها، مروراً بأبطال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وانتهاءً بالدول التي اندلعت فيها الثورات وكان يحكمها آنذاك عسكريون، والمخيف في الأمر أن قادة "الربيع العربي" أضحوا كما يقول المثل "برزت تفق" فبعدما أزاحوا قيادات ضاربة في العمق السياسي والاستحواذ الاقتصادي وما يملكونه من حلفاء أشداء، أصبحت الساحة السياسية فارغة؛ مما جرَّ إلى ويلات اجتماعية وانهيار اقتصادي مفجع.

أيها السيادات والسادة، هل تتوقعون لو أنَّ البوعزيزي أفاق من قبره وشاهد واقعنا العربي الذي يعيش فوضى عارمة من فقر سياسي وتصحر ديني عبر فتاوى مبعثرة تبيح بعض الدماء عن الأخرى باسم المذهب والعرق دون الأخذ بالاعتبار قول النبي الكريم "دم المؤمن على المؤمن حرام"، واقتصاد هزيل يعيش بعض ساسته على آبار النفط المنهوبة والموهوبة بين جحا والأربعين حرامي الذين يتسلقون على ظهور الشرفاء والمخلصين ليحققوا مآربهم وكانوا في القريب المنصرم سماسرة الحروب، ناهيك عن التخلف التربوي والترهل في البطالة وانعدام براءات الاختراع وهزالة البحث العلمي، ونهض قبور من فاضوا إلى بارئهم لإذكاء روح التعصب والجاهلية وتحقيق مصالح التشرذم بالقبيلة والعشيرة والطائفة على حساب الوطن؟ هل كاد يصدح بوعزيزي بصوته المبحوح تجاه من هَرِم الوطن بفسادهم لو كان يعلم أنه بذلك سيلمع صورة بعض من يحسبون على الدين وهو بريء منهم، ليصبحوا وكأنهم مشاهير هوليوود؟

نحن بحاجة لأن نبني منظومتنا الإصلاحية بتروٍّ ومسؤولية بعيداً عن المثالية الزائفة والمستقبل الهلامي والمصالح الحزبية والنعرات الطائفية؛ فالمواطن العربي اشتعل رأسه شيباً من الصراعات واستعراض العضلات وهو في أمس الحاجة للعدالة الاجتماعية والنضج السياسي والازدهار الاقتصادي، والتاريخ لا يرحم الأمم حينما يخط مراحلها وما آلت إليه حينما يتصل الأمر بمرحلة مفصلية، ما يبدو حتى اللحظة أن المواطن وبعدما كان يستبشر بالربيع العربي خيراً أضحى وكأنه يدور في حلقة مفرغة محاطة بألغام وكمائن فلا يزال يشعر بالإحباط والانهزام ويرى أنه في عمق معمعة الفوضى العربية.

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك