متى يكون المسلم مسلما؟!

 

د. صالح الفهدي

في أحد المجالس، طَرَح أحدُهم سؤالاً أمْلَته الأحداثُ المضطربة، والادعاءات المخادعة باسم الإسلام، فضلاً عن كثير ممَّا يعتور الأمة الإسلامية من إشكاليات حضارية جعلها تعجُّ بالمعضلات التي أوْهَذنت من قواها، وفرقت من وحدتها، وزعزعت من تماسكها. كان سؤاله: متى يكون المسلم مسلماً؟! فقلت -حين واتاني الحديث- مجيباً: يكون المسلم مسلماً حين يفهم دينه.

والحاصلُ أننا في الأغلب لم نفهم ديننا..! ولم نفقه مقاصده، ولم نع غاياته، ولم نتبع مجاريه، ولم نسلك سبله!

همُّ الواحد منا أن يُقيم الصلوات الخمس كل يوم، وأن يصطحب أبناءه إلى المسجد حتى يروا الناس ماذا يفعلون من عادة (يسميها عبادة) فيتطبع الابن بها كما تطبع هو وكبر عليها؛ فتقر عينه أن ابنه يصلي! ولكن إن جئته وسألته: ما معنى تكبيرة الإحرام؟ ما معنى الركوع ومغزى قولك فيه سبحان ربي العظيم؟ ما معنى السجود ومغزى قولك فيه سبحان ربي الأعلى؟ سَلْه ما شئت من تفاصيل الصلاة، فلن تسمع الإجابة التي ترجوها في الغالب! حينها لا تسأله: لِمَ لا يخشع في الصلاة؟!

سَلْه عن المعنى العميق لصلاة الجماعة وفضلها هي والجمعة، سيقول لك ما علم إياه وهو أن درجاتها تبلغ 27 درجة، ولن تسمع -في الأغلب- الحكمة الإلهية من الغاية السامية التي تقصد وحدة المسلمين، وتراصهم صفاً واحداً على مستوى القلوب، وما يلزم ذلك من تصفية القلوب والاعتلاء فوق الفردانيات، قبل رص الأكتاف بالأكتاف والأقدام بالأقدام!

تكتشفُ أنَّ الابن قد شب -كما الأب- على عادة اجتماعية، وليس على عبادة روحية، فلا تستغرب إن لم تؤد فيه الصلاة دورها: النهي عن الفحشاء والمنكر!

ثم إنَّه لا يملك إجابة: لِمَ صلاة الجماعة أفضل بـ27 درجة عن صلاة الفرد؟! هذه مبهمة لولا أن سمعت العالم المستنير د.علي منصور كيالي يقول: "ثبت لدينا علمياً أنه في عملية رص الصفوف بين المصلين يرتفع معدل الطاقة لكل مصلٍّ إلى 27 ضعفاً حصراً لا 28 ولا 25!!" فكم لنا مثل هذا الرجل المستنير يفهمنا معاني ما نؤديه من عبادات؟!

سَلْه عن الصوم في رمضان وعن مقاصده الإلهية، ما معنى أن يصوم المسلم؟ وما معنى أن يقضي سحابة نهاره صائماً؟! ستسمع إجابات قد تظنها فهماً حقيقياً للصوم، سيقول لك البعض: الصوم هو الشعور بالفقراء، ولكنك حين ترى الموائد العامرة بأصناف الطعام لن تستسيغ كلامهم ولن تبلعه! ذلك لأن الكلام تصدقه الأفعال؛ فقد سمعت حواراً لامرأة إنجليزية تدعى(Sara Loren) من مدينة مانشستر دخلت الإسلام حين دعتها امرأة مسلمة مسنة في بيتها عند الإفطار فرأت تلك الأجنبية الفقر المدقع لهذه المرأة؛ فشعرت بغضب تجاه الإسلام الذي ألزم امرأةً مسنةً لا تملك طعاماً ولا ماءً نظيفاً بالصوم، ولكن ما إن سألتها عن سبب صومها فأجابتها المرأة المسنة بأنها تصوم لتشعر بالفقراء، حتى اهتزَّ بدن تلك الأجنبية، فقالت في نفسها أوتصوم امرأة هي ذاتها مثل للفقر من أجل أن تشعر بحاجة الفقراء؟! هذا الموقف دفعها -بعد شعورها الغاضب من الإسلام- للقول: إن كان هذا هو الإسلام فإنني أريد أن أكون مسلمة!

هذا موقف واقعي مثالي، ولكن ما رأيك لو أن امرأةً دعتها للطعام في رمضان على مائدة فيها صنوف الأطياب مما لذ وطاب من الطعام، وسألتها السؤال نفسه فأجابتها الإجابة نفسها.. أوتظن أنها ستتأثر وتعلن إسلامها؟!

انظر إلى الجموع المتدفقة إلى الحج وهي مُخلصة النية بلا شك لأداء فريضة الحج، وسل أحدهم: ما هو مقصد الحج؟ ما معنى المطاف حول الكعبة؟ ولِمَ سبعة أشواط؟ وما الحكمة من السعي بين الصفا والمروة؟ وما معنى لبس ثوبين غير مخيَّطين؟ وما مقصد الوقوف بجبل عرفة؟ ماذا يعني رمي الجمرات؟ سَلْهم ما شئت ليس عن تراتبية المناسك أو الدعاء، بل عن المقاصد العميقة، والدلالات الروحانية لهذا الركن العظيم من أركان الإسلام.. أقولها ثانية: لن تسمع -في الأغلب- الإجابات التي تأملها!

كيف يكون المسلم مسلماً وهو لا يعي القيمة الجوهرية للعبادة التي يمارسها، وكيف تتحقق فيه مشروطية الخشوع وهو لا يفهم مغازيها، وكيف يكون لها أثر في حياته وهي لا تعدو أن تكون "عادةً" أكثر منها عبادة..! هنا تكمن القضية: أن الإسلام هو في أصله قيم وأخلاقيات وسلوكيات، وسمات إنسانية وليس مجرد شعائر تؤدى دونما روح، أو بغير شعور.

استمع لمن يدخل الإسلام ستسمع ما يهز المشاعر.. اسمع للملاكم الشهير محمد علي كلاي حين سأله المذيع: ألك حراس شخصيون؟ فأجابه بطلاقة: لدي حارس شخصي واحد، فهو يرى بلا عيون، ويسمع بلا آذان، يتذكر كل شيء دون مساعدة عقل أو ذاكرة، إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، تعالى أن ينطق رسالاته باللسان، أو بصوت يسمع، عليم بذات الصدور، وما يجول في الخاطر، هو الله، هو من يحرسني، وهو من يحرسك، هو المتعال".. ستهلل وأنت تسمع هذا الكلام.. الله الله، ما أعذبه، فمن أين استقاه، ومن أين تشربه؟!

كثيرة هي الآيات والأحاديث التي تجيب عن السؤال: متى يكون المسلم مسلماً؟ ولكننا نراها رأي العين، لا القلب، وهنا لب المشكلة "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (الحج/46).

لقد رأيتُ شعوباً -وهنا تعنيني فكرة تعميق مفهوم السلوك فقط- كالصينيين واليابانيين والتايلانديين، تكرَّست فيهم تحية الانحناء أو كما تسمى باليابانية "أوجيكي". في تايلند لم أسمع إلا التحية "سباي دي كاب" (sbai dee cap) تتكرَّر أينما ذهبت في السوق، في الشارع، في الفندق، في كل مكان، وهي تحية تتجذَّر في الحياة وليست مجرد عادة إذ تصاحبها الابتسامة، والتواضع، والتسامح..! في شوارع تايلند لم أسمع سائقاً يشتم آخر بالرغم من الازدحامات والأخطاء، لم أسمع مزامير سيارات إلا نادراً، ولم أر غاضباً أو ضيق صدر، حتى في التظاهرات فإن أنصار المعارضة يلبسون القمصان الحمر، ومؤيدي الحكومة يلبسون القمصان الصفر..! وفي الصين حيثما لنا استفسار، أو كلما ركبنا سيارة الأجرة مع مرشدتنا الصينية فإننا نحسب -بسبب الانسجام والعفوية بينهما- أن كل سائق أجرة فرد من أفراد عائلتها!

قلتُ لنفسي: نحن أيضاً يُوصينا ديننا -بل ويحفزنا على- الابتسامة؛ فيجعل لها أجراً؛ ففي الحديث الشريف: "تبسُّمك في وجه أخيك صدقة"، ولكننا نادراً ما نراها على الوجوه، فإنْ ابتسم أحد في وجوهنا أسأنا به الظن، وذهبت بنا الشكوك مذاهب شتى..!! وديننا يُوصينا بإفشاء السلام لأنها سبب المحبة "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" (رواه مسلم).. لكننا قليلاً ما نسمع هذه التحية العظيمة تتردد بيننا وكأن إلقاءها مخجل أو محرج! كيف تمسَّكت تلك الشعوب بالابتسامة والتحية المتواضعة والعفو، وتخلينا نحن عنها أو قل اكتراثنا بها ونحن أصحاب الديانة السماوية الأشمل والأعظم في الوجود؟

في اليابان يبدأون في سن مبكرة جدًّا تعليم الأطفال تحية الانحناء، كما تقوم الشركات بتدريب موظفيها بطرق الانحناء بصورة لائقة!! في ماليزيا أعجبتني فكرة الماليزيين بوضع مجسم للكعبة ومناسك الحج الأخرى لأجل تدريب الحجاج الماليزيين عليها؛ الأمر الذي انعكس على سلاسة حجهم، ووضوح عبادتهم؛ فتراهم وقد تميَّزوا بأسوارهم التي تتضمَّن بياناتهم الأساسية، وحقائبهم الصغيرة التي تحمل أعلام بلادهم، حتى تصدر مكتب الحج الماليزي مكاتب 78 دولة كأفضل مكتب في التنظيم والترتيب لهذا العام بحسب تأكيد وزير الحج السعودي.

الفرق بيننا والأجنبي الذي يسلم هو ما شهدته بنفسي؛ فالأجنبي يقرأ عن الإسلام، ويطلع، ويسأل حتى يصل إلى قناعة فيدخل وقد وعى مفاهيم الدين وأثره على حياته، تقول(Barbra) الفرنسية قبل قرارها اعتناق الإسلام: "بدأت في قراءة القرآن وتعلمه وكتابة الآيات بالفرنسية، وكان ذلك خلال ستة أشهر".

أما حينما أراد عندنا شخص أن يتوقف عن حياة اللهو، فقد رأيته في اليوم الثاني وقد قصر ثوبه، وأطال لحيته، وبدأ يصلي بالناس..! وأخبرني مسؤوله بأنَّه منذ أن تغيَّر فقد بدأ يتأخر في الحضور إلى العمل! تلك أخذت الإسلام بعلم، وهذا أخذ الإسلام بجهل!

أقول ختاماً: إنَّ الإسلام ليس مجرد عبادات تؤدى، ولا أثواب ترتدى، ولا نصوص تروى، بل هو قبل ذلك مفاهيم ومبادئ وقيم لا بد من وضوحها في النفس، وجلائها في العقل.. فإن النفس إن وعت رشدت، وإن العقل إن فهم استدل، حينها تصبح للعبادة معنى، وللنسك مغزى، وعندها يرى أثر ذلك في السلوك، والطباع، والمعاملات.

ماذا فعلنا؟! إننا أخذنا بالظاهر في كثير من أمور ديننا، وتركنا الجوهر دون فهم وترسيخ وتطبيق.

تعليق عبر الفيس بوك