الإسلام والأسلمة

زاهر المحروقي

إنَّ من يقرأ مذكرات مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق، وعنوانها "طبيب في رئاسة الوزراء" -الصادرة ترجمته إلى العربية عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بترجمة وتحقيق أمين الأيوبي- يخرج بانطباعات حسنة عن الرجل؛ إذ إنَّ تجربته تستحق الدراسة، خاصة الفصول التي تحدَّثت عن مهاتير بعد أن أصبح رئيساً للوزراء؛ وفصل "النظر شرقاً" من الفصول المهمة في الكتاب؛ إذ يتحدَّث فيه عن اتجاهه إلى الشرق والاستفادة من التجارب اليابانية والصينية والكورية في الصناعة؛ ولكنْ هناك أيضاً فصلٌ آخر مهم، وهو فصل "الإسلام والأسلمة"، يبيِّن لنا فيه كيف عرف هذا الرجل الإسلام من خلال شرحه لآيات القرآن، وكيف أنه رفض الجمود لدرجة أن يقول إنَّ كلَّ التفاسير إنما هي تفاسير أشخاص قد تتغير بتغير الظروف والأزمنة، ويشخص فيه واقع المسلمين وأسباب تخلفهم، ويركز على أنَّ على رأس هذه الأسباب الفهم الخاطئ للإسلام؛ ويذكر أنّ القرآن الكريم يؤكد على الحاجة إلى القراءة في سورة العلق، ومطلعها "اقرأ"؛ لذلك قرأ المسلمون الأوائل كلَّ ما وقعت عليه أيديهم لينهلوا من المعرفة، فاطلعوا على مؤلفات اليونانيين والهنود والصينيين والفرس؛ فتوجَّب عليهم تعلم لغات تلك الأقوام؛ لذا فإنَّ العلماء المسلمين الأوائل أعادوا إنتاج الاكتشافات العلمية والنظم الرقمية التي توصلت إليها الشعوب المذكورة، والأهم من ذلك أنهم أجروا دراساتهم وبحوثهم الخاصة وكانت لهم إضافات في كثير من ميادين المعرفة؛ فكانوا رواد علم الفلك والجبر ودراسة الأمراض والطب والأجرام السماوية...وغيرها؛ لذا بقي المسلمون مُتقدمين على الحضارات الأخرى طوال قرون؛ وذلك بإتقانهم العلوم والطب والرياضيات؛ إلا أنَّ مهاتير محمد يرى أن المسلمين تأخروا عندما بدأت تفسيراتٌ جديدةٌ بالانتشار في القرن الخامس عشر الميلادي؛ وفحواها أنّ كلمة "اقرأ" تعني اكتساب العلوم الشرعية فقط، وأنَّ كلَّ الدراسات أو ميادين المعرفة الأخرى لا تكسب صاحبها أي فضل؛ فكان من نتيجة ذلك أن أصبح المسلمون شديدي الجهل بهذه الموضوعات؛ وفي وقت عزف فيه المسلمون عن دراسة العلوم، لاحظ المسيحيون الأوروبيون -الذين كانوا في العصور المظلمة آنذاك- تفوق حضارة المسلمين وقرروا امتلاك معارف المسلمين؛ فتعلم الكهنة المسيحيون اللغة العربية ودرسوا الكتب العلمية...وغيرها، والتي كانت تزخر بها المكتبات العظيمة في العالم الاسلامي؛ فكانت النتيجة النهائية انكفاء المسلمين وتقدم المسيحيين الأوروبيين السريع، بعد أن ترجمت المعارف التي اكتسبوها إلى اللاتينية أولاً، ثم إلى اللغات الأوروبية الأخرى، وبذلك أتيحت المعرفة للمواطنين العاديين وليس للكهنة فقط.

ويرى مهاتير محمد أنَّه ومع انكفاء المسلمين بسبب قلة إلمامهم بالعلوم، أصبحوا ضعافاً وعاجزين عن الدفاع عن أنفسهم؛ فلم يتمكنوا من تطوير دفاعاتهم بأسلحة وإستراتيجيات جديدة؛ فسقطت الدول الإسلامية الواحدة تلو الأخرى في أيدي الأوروبيين الذين امتلكوا أسلحة أفضل، ويؤكد أنَّ هذه هي عاقبة التفسيرات الخاطئة للآيات القرآنية؛ على أن هناك تفسيرات أخرى للقرآن الكريم أدت لانكفاء المسلمين؛ فالقرآنُ يأمر المسلمين بامتلاك القدرة على الدفاع عن أنفسهم؛ ولهذا السبب ذكر القرآن الخيل التي تُستخدم في الحروب "وَأَعِدُّوا لهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُوْنَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَكُم"، والمؤسف -حسب مهاتير- أنّ التفسيرات الحرفية لهذه الآية جعلت المسلمين يهملون أهمية القدرة الدفاعية، وشددوا بالمقابل على امتلاك الخيل، عملاً بالتفسير الحرفي واتباع السُّنّة، ولو أنهم شددوا على الدفاع لعززوا قدراتهم الدفاعية بتحديث أسلحتهم مثلما فعل أعداؤهم، وقد أسهم إهمال دراسة العلوم والرياضيات في عجز المسلمين عن اختراع أسلحة وتطويرها. وفي النهاية، أرغموا على حيازتها من أعدائهم، وتدهورت بالكامل قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، وهي القدرة التي أمرهم القرآن بامتلاكها.

ويقول مهاتير محمد إنه وحتى حين تكون الآية القرآنية واضحة، فيمكن أن تفوت المفسرين الرسالة الحقيقية التي فيها، بميلهم إلى المعنى الحرفي، ويتعيَّن عزو الحالة الكئيبة التي يعيشها المسلمون اليوم، وعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم إلى التشدد الخاطئ في تفسيرات تعاليم الإسلام؛ فالقرآن يقدم لنا توجيهاً آخر غالبا ما يساء تفسيره أو فهمه بما يلحق الضرر بالمسلمين؛ فليس هناك ضير مثلاً في وجوب طلب المسلمين العون بالابتهال إلى الله في صلواتهم عندما يواجهون مشكلات أو تهديدات -كما يشدد على ذلك شيوخ الدين- لكنهم لم يشددوا على الآية الكريمة التي تقول: "إنّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتَّى يُغيِّرُوا مّا بأنْفُسِهِم"؛ فمن الأهمية بمكان أن نساعد أنفسنا؛ فالصلاةُ وحدها لن تساعدنا إلّا في الحالات التي لا يسعنا فيها فعل شيء لأنفسنا. (حقيقة إنّ ما يقوله مهاتير محمد في هذه النقطة، قد سبقه فيها آخرون من المخلصين لهذا الدين، وقد قوبل رأيهم وكأنه كفر؛ فأصحاب هذا الرأي لا ينكرون وجوب الصلاة، ولكن يقارنون الصلاة بالسعي والعمل).

ويخلص مهاتير محمد إلى أنّ الوضع البائس الذي يعيشه المسلمون اليوم راجع جزئياً إلى عدم قيامهم بشيء، عدا طلب النصرة من الله تعالى؛ فيما يتعيَّن أن يكون أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مسلم في عداد أغنى الناس في العالم؛ لأنَّ الله أنعم عليهم بثروة غير محدودة من الموارد النفطية؛ لكن هل استخدموا تلك الثروة في مساعدة أنفسهم على الخروج من وضعهم الحالي؟ الواضح أنهم لا يعملون بتوجيهات القرآن التي أمرتهم بمساعدة أنفسهم أولاً، إذا كانوا يريدون من الله أن يساعدهم، ولومُ الآخرين لن يوصلهم إلى شيء، لأنه لا يمكنهم في الواقع توقع قيام الآخرين بإنقاذهم فيما لا يقومون هم بشيء من الناحية الفعلية لإنقاذ أنفسهم.

وفي هذا الفصل المهم من كتاب "طبيب في رئاسة الوزراء"، الذي سماه الإسلام والأسلمة، يتَّفق مهاتير محمد تماماً مع فكر الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- فهو يرى أنّ توافر مديرين جيدين وأطباء ماهريين ومهندسين ممتازين وجنود وقادة مخلصين، سيطهر المجتمع الإسلامي من آثام عديدة، وهؤلاء الأشخاص هم الذين يؤدون بحق فرائض الاسلام الحقة؛ ومع أنّ الفرد يثاب على أداء فروض الصلاة والصيام والزكاة والحج، فإنّ سد حاجات المجتمع الاسلامي تعود على الفرد بالثواب، كما تطهر المجتمع من آثام شائعة؛ ويقول: "إنّ الدفاع عن بلاد المسلمين ليس مُقتصراً على الجنود فقط في الميدان، ولكن يشمل العاملين في الصناعة الدفاعية، والباحثين، ومبتكري الأسلحة الدفاعية ومنتجيها؛ بل يشمل الإدارة برمتها في الواقع؛ ومتى ما أدوا جميع أعمالهم بإخلاص وبالشكل اللائق، فيتعين اعتبارهم في عداد مؤدي فروض الكفاية، وهم يستحقون الثواب ذاته، وإذا فشلوا في أداء مهمتهم، وإذا كانوا فاسدين يكونون بطيبيعة الحال في جملة مرتكبي الكبائر ويستحقون العقاب في الآخرة".

إنَّ كتاب مهاتير محمد "طبيب في رئاسة الوزراء"، كتاب مهم؛ فهو يحكي تجربة رجل مفكر، يحمل غيرة على وطنه وشعبه ودينه، ويظهر كيف إذا وُجد العقل السليم مع الإرادة والإخلاص يستطيع الفرد أن ينهض بالأمة ويضع دولته في مصاف الدول الكبرى في الصناعة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا، رغم العقبات التي تعترض ذلك الطريق، ورغم قلة الموارد، ولكن يبقى أنَّ "الإخلاص" هو سر النجاح، والإخلاصُ يستوجب إنكار الذات وعدم السعي للمنفعة الشخصية على حساب المنفعة العامة -كما هو حادث في أوطاننا العربية- حيث المشاريع تتكلف المليارات؛ فإذا هي أقرب إلى مشاريع وهمية، وإذا ما تمت فإنّ رائحة الفساد لا بد أن تُشَم بوضوح، ممَّا نتج عن ذلك انفصام بين الحكومات والشعوب، وأصبح المواطنون لا يثقون في ما يأتي في البيانات الرسمية؛ حتى وإن كان ما جاء فيها، فيه من الصواب ما فيه.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك