حديث مجالسهم موعد رواتبهم

عيسى الرواحي

في مقال الأسبوع الماضي بعنوان "حديث المدارس"، كنتُ قد تحدَّثت عن أهمية أن يكون حديث المدارس حديث المجالس حديث كافة أبناء المجتمع؛ كون التعليم يُشكِّل القضية الأولى عند الوطن والمواطن، خاصة وأننا على أبواب عام دراسي جديد، وقد عقَّب أحد الأصدقاء بعد قراءة المقال تعليقا ظريفا بعفوية وبساطة وإيجاز بقوله: "حاليا حديث مجالسهم موعد رواتبهم".

لقد أعجبني هذا التعليق، كما أنَّه استوقفني كثيرا؛ حيث إنَّه يحكي الواقع الحقيقي للمواطن ووضعه المعيشي ومصدره الرئيس أو الوحيد، وهذا ما يتجلَّى بوضوح عند استلام المواطن رواتبه مقدمًا قبل إجازته السنوية أو عند مواجهته بعض العوارض المالية، أو في حال تمَّ تقديم الرواتب قبيل المناسبات؛ لينتظر المواطن بعدها راتبه القادم ما يزيد على شهر ونصف الشهر، فيقع حينها في إشكاليات مالية عدة، ولعل النكات الساخرة التي تحكي انتظار المواطن راتبه الشهري لم تكن من فراغ، وإنما تعبر عن حقيقة مهمة يعيشها المواطن العماني.

إننا وقبل الحديث عن هذا القضية، يجب على كلِّ موظف بأي مؤسسة كانت أن يستشعر النعمة الجليلة التي أنعم الله بها عليه في إيجاد فرصة عمل تُشكل له مصدرَ دخل يُحقِّق به متطلباته في الحياة. وكما هو معلوم، فإنَّ القانون القرآني ينصُّ على أنَّ الشكر سبيل الزيادة، وكفران النعمة طريق زوالها؛ يقول تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد" (إبراهيم:7)، ولا يظنُّ أحد أنَّ الشكر مُقتصر على اللسان فحسب، وإنما هو ترجمة عملية على أرض الواقع تتمثل في تسخير تلك النعمة فيما يُرضي الله تعالى، وفي امتثال أوامره واجتناب نواهيه. وصدق الشاعر إذ يقول:

((إذا كنت في نعمة فارعها...

فإن المعاصي تزيل النعم))

وفي هذا السياق أيضا، وما يتعلق بواجبات الوظيفة، فإنَّه على الموظف أن يترجم عمليًّا أن الراتب الشهري ليس منحة حكومية؛ وإنما هو نظير عمل معين ووقت معلوم يستوجب منه اﻹخلاص والتفاني واﻹتقان في مهام عمله، والالتزام بمدة العمل المحددة والانضباط فيها؛ من أجل أن يكون استيفاؤه لراتبه الشهري مستحقا.

وبما أنَّ الراتب الشهري هو المصدر الوحيد وليس الرئيس فحسب لأغلب المواطنين، فإنه لا غرابة عندما تُصبح قضايا التوظيف وما يتعلق بها من رواتبها الشهرية وترقياتها وبدلاتها ونظام التقاعد أهم القضايا عند المواطن، وتكاد تشكل أكبر هاجس لديه، ولا يُلام المواطنون كذلك عندما تثور ثائرتهم، عندما تضج وسائل التواصل الاجتماعي لديهم عند محاولة المساس بمصدر دخلهم الوحيد. ومن غير تعميم، أكاد أُجزم يقينا بأنَّه لو استشعر المسؤولون -أصحاب مصادر الدخل التي لا تعد ولا تحصى- حقيقة ويقينا ما يعنيه الراتب الشهري عند المواطن، ووضعه المادي في آخر كل شهر ميلادي، واستشعروا الأمانة الحقيقية الملقاة على كاهلهم بشأن معيشة المواطن؛ لكانت قضايا الترقيات والعلاوات والوظائف خطوطا حمراء لا يمكن الاقتراب منها، ولأعطيت الأولوية في كل قضية وطنية، فكيف ونحن نشاهد في الوقت الذي تُؤخر وتُوقف فيه ترقيات كثير من المواطنين، وتُوقف علاوة العمل، استنزافا مستمرا لثروة الحكومة في الندوات والمؤتمرات التي سَئِمنا من كثرتها وندرة جدواها...وغيرها من المشاريع التي يُمكن الاستغناء عنها.

إنَّ المواطن العماني بشكل عام -حسب وجهة نظري- تعنيه القضايا السياسية التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية، ولكنها لا تهمه بالدرجة الأولى، وليست مقدَّمة عنده على وضعه المعيشي؛ لذا فإنني أتفق مع الكُتَّاب؛ وعلى رأسهم الكاتب القدير زاهر بن حارث المحروقي، الذي أشار في عدَّة مقالات سابقة له إلى أنَّه على الحكومة -بقدر ما هي معنية بالسياسة الخارجية، ومحققة نجاحات باهرة في هذا الشأن- أن تحرص أشد الحرص على الوضع الاقتصادي والمعيشي للمواطن بالدرجة الأولى، وأن تستثمر نجاحاتها الباهرة في السياسة الخارجية في خدمة المواطن اقتصاديًّا، ومتى ما كانت الدولة قوية في الداخل بتحقيق الرضا المعيشي لدى المواطنين، وإعطائهم حقوقهم كافة، استطاعت أن تنطلق إلى آفاق أرحب في سياساتها الخارجية، وتبقى الأولوية للسياسة الداخلية قبل كل شيء.

وإذا انتلقنا بالحديث في هذا الشأن إلى مسؤولية المواطن؛ فإن ممَّا يجب أن نشير إليه أنَّ المجتمع بشكل عام بحاجة ماسة إلى تبصير بحسن استغلال الأموال، وإلى زرع الثقافة المالية والوعي لدى أفراده؛ فالكثير من المواطنين -إن لم يكن أغلبهم- يفتقرون إلى الطرق المثلى في عمليات الإنفاق والاستهلاك؛ لذلك فإنهم لا يجيدون الموازنة المالية في حال تغيرت مواعيد رواتبهم، ويقعون في ديون كانوا في غنى عنها. وبحسب أحد المحاضرين المختصين في هذا الشأن، فإنه يرى أن من أُسس الثقافة المالية عدم شراء متاع يجلب نفقات كثيرة، وعدم شراء متاع لا يمكن بيعه عند الحاجة، وجمع الأصول التي تدر المال، والادخار من أجل الاستثمار.

إنَّ المواطن مُطالب بأن يُحسن استغلال ماله، ويُحسن التصرف فيه، وأن يُجيد فنَّ الأولويات في شؤون المال، ويبتعد عن المظاهر والكماليات التي تُثقل كاهله، وتكون على حساب راحته النفسية، وسعادة أهله، كما عليه أن يحرص أشد الحرص على ألا يقع في الديون ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وحسب إحدى الدراسات، فإنَّ كثيرا من حالات الطلاق كان سببها الديون؛ لذا فإنَّ على الزوجة أن تكون عونًا لزوجها في حسن استغلال المال، وطرق إنفاقه.

كما ينبغي للمواطن أن يَسْعى لإيجاد مصدر دخل إضافي له، وألا يعتمد على راتبه الشهري فقط ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ وقد قيل بأنَّ فاتورة الاستثمار أهم ما ينبغي أن يسعى إليه الموظف بعد أن يتوظف؛ خاصة إذا ما علمنا أنَّ فرص الدخل الأخرى لا تزال كثيرة ومتنوعة في بلدنا العزيز، ولكن مع أهمية معرفة الطرق الناجحة والتزام المعايير الشرعية في ذلك، والتغلب على معوقات النجاح التي أبرزها الخوف والتشاؤم والعادات السيئة والغرور والكسل.

إننا نأمل أن يُعطى كل موظف قبل التحاقه بأي وظيفة دورة مختصرة -تقوم بها جهة مختصة- تبصِّره بأسس الثقافة المالية والطرق المثلى للادخار والاستهلاك والإنفاق، وتبصِّره بأولويات حياته في الشؤون المالية، وتغرس لديه ثقافة الإنفاق، كما نأمل أن توسع دائرة هذه النقاط في مادة المهارات الحياتية ضمن المنهج الدراسي.

وعلينا أن نتذكَّر ونحن نتحدَّث عن عالم المال أنَّ الصدقة والاستغفار يجلبان الرزق، وأن الإسراف والتبذير خُلقان مذمومان بنصِّ القرآن الكريم، وأنَّ اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى... والله المستعان.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك