مَا يطلبه المزارعون

علي المعشني

الزراعة -وكما هو معلوم- هي النشاط البشري التي شكَّلت تحولًا جذريًّا في الحضارة الإنسانية؛ حيث جلبت معها الاستقرار، ثم إعمار الأرض، كما أراد الخالق وأناط بعباده وخلقه. ومن هنا، ففلسفة الزراعة أعمق وأبعد بكثير من مفاهيم العرض والطلب والغذاء رغم أهمية كل ذلك للإنسان ومعايير الاقتصاد ومفهوم الأمن الغذائي اليوم؛ لهذا جعل الله إحياء الأرض البور بالملك العضوض لمحييها.

وقطاع الزراعة في السلطنة لم يشذ يومًا عن هذه القاعدة الحضارية أو التكليف الرباني، ولكنه شابه الكثير من الغموض والتجاهل، وناله الكثير من الإهمال في العقود الأربعة الأخيرة لغياب النظرة الإستراتيجية والتخطيط الاستشرافي؛ فأصبح قطاعًا طاردًا وبكل المقاييس، ومهنة العجزة عن مواكبة العصر وكبار السن ممن تجاوزهم الزمن؛ حيث تهافت أبناؤه على القطاع الوظيفي بشقيه العام والخاص لمناخهما المريح، وكأنَّ قطاع الزراعة من أعراض التخلف.

وحين تنبَّهنا لفاجعة الزراعة في وطننا الحبيب، لم نجد من نستنهضهم سوى العمالة الوافدة والزراعة المستترة والتي أهلكت الاقتصاد وعبثت بالأرض والماء، وهما مصدران غير متجددين، وشحيحان كما هو معلوم.

واليوم -وفي ظل الميكنة وتطوُّر آليات الزراعة ووجود البدائل للماء والتربة والملوحة بهما- عاد المواطن للأرض، ولكنه تفاجأ بلوبيات العمالة الوافدة وغياب الدعم الجاد من قبل الحكومة وغياب مبادرات القطاع الخاص للنهوض بهذا القطاع الحيوي الهام ذي القيمة المضافة العالية للوطن على الصُعد الوظيفية والصناعية والاقتصادية والسيادية والاجتماعية.

فلا يزال المنتمون لهذا القطاع يُمارسون دورهم وأدوارًا غيرها كذلك؛ كنتيجة طبيعية لغياب المنظومة الزراعية المتكاملة عن أذهان المعنيين الحقيقيين بهذا القطاع.

فالمزارع أو المستثمر الزراعي هو الزارع والمسوق معًا، وهو الباحث عن الجدوى لزراعاته في مواسمها، وهو الباحث عن الأسواق وأنواع البذور والمحاصيل والمبيدات والدعم المادي والأسمدة بأنواعها؛ الأمر الذي يجعل من هذا القطاع شاقًا وطاردًا وغير آمن في ظل هذا التذبذب والعناء.

وفي الأقطار التي نهضتْ بها الزراعة، اعتمدت على وجود شركات كبرى لشراء المحاصيل وتسويقها في الأسواق المحلية والخارجية؛ وبالتالي خلقت شيئًا من بورصة التحكم بالأسعار، وخلقت الاستقرار النفسي والمادي لدى المزارع لعلمه مُسبقًا بكلفة كل محصول وسعره السوقي في أفضل الحالات وأسوأها مع تجنيبه التام للخسارة.

كما قامتْ بعض الأقطار بالنهوض بقطاع الزراعة عبر شركات زراعية كبرى ومصانع غذاء تعتبر المزارع خطوطَ إنتاج لها؛ حيث تقوم برعايتها والاعتناء بها والإشراف المباشر عليها لتطويرها وتحسين جودتها ورفع قدرتها التنافسية ومنع التضارب والإغراق السوقي، وتقوم الحكومات في المقابل بدعم هذا القطاع بما يضمن جودته واستمراريته ونموه الرأسي والأفقي، ويعزز من تنافسيته ويشجع الاستثمار به.

يُحدِّثني صديق زار أحد بلدان الاتحاد الأوروبي عن الدعوم التي يحصل عليها المزارع في هذا البلد من الحكومة المحلية والحكومة المركزية والاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذي جعل من الدعم بمثابة دلال لهذا القطاع ومنتسبيه. وفي السودان مثلًا، كان القرار الرئاسي بإعفاء المواد الزراعية من الرسوم الجمركية كفيلًا بمضاعفة القطاع في الإنتاج والجذب والاستثمار. وفي الأردن، ضمن قيام شركات شراء وتسويق المنتجات الزراعية في الداخل والخارج لهذا القطاع الديمومة والارتقاء.

أمَّا لدينا في سلطنتنا الحبيبة، فلا يزال المستثمر في هذا القطاع يتهيَّب من الإجراءات الحكومية الطاردة من البداية؛ والمتمثلة في التراخيص الإسكانية والبيئية والبلدية والعُمالية، والتي تُشكل حائط صد صلب لمن يمارس الزراعة أو يفكر في ولوج عالمها. يأتي بعد ذلك صعوبات التمويل، ثم جهد الإنفاق والوقت في تهيئة الأرض للمحصول المطلوب، ثم تأتي العقبة الكؤود وهي التسويق؛ حيث يتطلب الأمر من المزارع توفير وسائل النقل عبر التملك أو الاستئجار لنقل المحاصيل والبحث عن السوق المناسبة لتسويقها، أو مخازن تبريد، وهذا ما يرفع من كلفة المنتج ويزيد من نسبة المخاطر؛ نظرًا لتعرض أغلب تلك المحاصيل للتلف السريع وتسببه في الخسائر أو تدنِّي العائدات المالية غير المُجزية بعد كل ذلك العناء والمعاناة.

... تُوجد لدينا في سلطنتنا الحبيبة عشرات الآلاف من الأفدنة القابلة للزراعة في جميع المناطق والمحافظات، يُضاف إليها وجود الآلاف من الشباب العُماني الجاد لخوض هذه التجربة والاستمرار فيها، ولكن تبقى العوائق الكبيرة طاردة له والمتمثلة في الإجراءات الحكومية الطويلة والمتعددة والمتضادة في كثير من الأحيان، وغياب التمويل المجدي والمرن، ثم العقبة الكبرى في عدم وجود منافذ تسويق آمنة ودائمة ومجدية.

ومن هنا، فإنَّ الأمر يتطلَّب منا الكثيرَ من الجدية والتخطيط للنهوض بقطاع الزراعة والثروة السمكية والحيوانية، وخلق مناخات جاذبة لعودة الأجيال إلى سابق عهدها في هذه القطاعات وبما يتوافق مع لغة العصر وممكناته، ويحقق الأمن الوظيفي لقطاع عريض من المجتمع العُماني، ولضمان تعدد مصادر الدخل وتنويعه، والأمن الغذائي بمفهومه الواسع وفلسفته العميقة بعيدًا عن التنظير أو التجزئة.

والأمل الكبير معقود على الشركة العُمانية للأمن الغذائي، والتي نعول عليها كثيرًا كشركة حكومية ذات رسالة عميقة وشاملة للدولة بكافة قطاعاتها، في النهوض بقطاع الزراعة بعمومة وتشجيع قيام الحيازات الصغيرة والمتوسطة كخطوط إنتاج لها وبرعايتها وإشرافها؛ وبالتالي خلق فرص عمل مجزية وآمنة لآلاف الشباب وفي جميع مناطق السلطنة، والتقليل عن كاهل الحكومة والقطاع العام، مع توفير المناخ التمويلي المريح والآمن في حال دخول الشركة كطرف تعاقدي وقانوني لتلك المشروعات. كما لابد من حصر جميع الإجراءات الحكومية في وزارة الرزاعة والثروة السمكية، واعتماد إشرافها المباشر وتوصياتها لكل مشروع من المشروعات التي تدخل ضمن اختصاصاتها المباشرة لتشجيع الاستثمار في هذه القطاع المهم، وتنظيمه وإضفاء الجذب والحيوية عليه، وفي إطار إستراتيجية الحكومة للنهوض الشامل به، خاصة وأنَّ الفجوات واسعة جدًّا مابين الإنتاج والاستيراد لكل قطاع.

كما لابد من التفكير الجاد في كيفية بعث مشروعات الهيئة العامة للتسويق الزراعي وبنك الزراعة من جديد في ذات السياق، ولخدمة ذات الغرض بهياكل جديدة وبأهداف تواكب العصر وتلبي الحاجات والمطالب. فنحن في مرحلة لم يعد فيها من المفهوم أو المعقول أو المقبول تنصُّل الحكومة من مسؤولياتها الطبيعية والقانونية في تشكيل العقل الجمعي للمواطن الصالح والمسؤول والقادر على الإسهام الفعال والحقيقي في التنمية بمفهومها الشامل وأبعادها المختلفة، عبر اعتماد التشريعات الواقعية المرنة والإجراءات الجادة والنابعة من حاجات الناس والمتوافقة تمامًا مع مصلحة الوطن والمواطن، والمواكبة لأطوار نمو الدولة والمجتمع لتحفيز المجتمع وإشراكه في التنمية والمسؤولية معًا. فقد تجاوزنا زمن تكريس مفهوم ومهام الدولة في الحكومة وتفرد الحكومة بكل شيء نيابة عن الدولة وأطيافها.

-----------------

قبل اللقاء: ما لم يكن همُّك على الوطن، فأنت همٌ على الوطن. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك