هل سيكون المواطن المنقذ للموازنات المالية؟

د. سيف بن ناصر المعمري

saifn@squ.edu.om

لست بفقيهٍ في عالم الاقتصاد لأنني أتعامل مع الكتب والطلبة أكثر من تعاملي مع الأسهم والعقارات، ولكنني مثل كثير من المواطنين أتابع الأخبار الاقتصادية لأنّها تؤثر على كثير من جوانب حياتنا، وخلال الأسبوع الماضي كانت هناك نقاشات متزايدة حول تأثير انخفاض النفط على الوضع الاقتصادي في دول الخليج التي تقوم موازناتها على إيراداته، وطرح كثير من الأسئلة حول المآلات التي تتجه إليها هذه الدول وأبرزها على الإطلاق: هل ستتجه إلى تخفيض رواتب مواطنيها في الفترة القادمة؟ من خلال رفع الدعم عن كثير من السلع التي يتمتع بها المواطنون طوال هذه السنين؟ ولو حدث ذلك ما تأثيرات ذلك على الاستقرار السياسي والاجتماعي في هذه الدول؟.

إذن نحن أمام بوادر أفول عهد الدولة الريعية في المنطقة، وهو أفول لن يمر بدون تأثيرات عميقة في بنية الدولة في المنطقة، هذه الدولة التي قامت فيها العلاقة بين الدول والمواطنين على أساس الامتيازات الاقتصادية المختلفة التي يتزايد نصيب الفرد منها حسب درجة قربه من مناطق اتخاذ القرار أو حسب مركزه في البنية الاجتماعية أو حسب مكانه في المؤسسة، لكن لم تقم على أساس الكفاءة والدور الذي يؤديه الفرد، مما جعل هذه العلاقة بين الدولة والفرد محكومة بالقلق من المستقبل الذي لا تستطيع فيه الدولة أن تُلبي تطلع الفرد لمزيد من الامتيازات الاقتصادية يراه من منظوره حق لا يمكنه التفريط فيه، بينما تراه هي امتيازات تثقل كاهلها ولا تستطيع تلبيتها على الدوام، وبالتالي أصبح هذا الموضوع الذي كان الجميع يهاب الحديث فيه واقعاً خلال هذا العام، لكن الحديث فيه دائماً هو عن امتيازات المواطن والدعم الذي يُقدم له في مختلف الخدمات، وكأن المواطن هو السبب في أي ضغوطات اقتصادية تعيشها هذه الدول مع انخفاض أسعار النفط، فهل سيكون رفع الدعم وتخفيض رواتب المواطنين هو المنقذ لهذه الدول وموازناتها؟.

أطرح هذا السؤال محاولاً قراءة الخطابات الرسمية الخليجية خلال هذه الفترة التي أجدها تحاول أن تجعل المواطن كبش فداء لعقود من الفشل في إدارة الاقتصاد وإيرادات النفط، فخلال العقود الماضية لم تتمكن هذه الدول من تنويع مصادر الدخل، بل تبنت سياسات ريعية قادت إلى تركز الدخل والثروة في يد نُخبة معينة، وبالتالي احتكرت الأنشطة الاقتصادية من قبل هذه النخب في كل دولة، وأصبح توزيع الدخل عبارة عن أداة سياسية لتعزيز الاستقرار على المدى القصير، ولكن هل يُمكن أن يضمن هذا الاستقرار على المدى الطويل إذا كان هناك تقليص في التوزيع المرتبط بالقطاع الكبير من المواطنين الذين يجدون اليوم أنفسهم غير منتفعين بخدمات تعليمية وصحية تقدمها المؤسسات العامة نتيجة تدني جودتها، ويجد نفسه في مدن يتزايد فيها غلاء المعيشة مقارنة بالدخل، فكيف يمكن أن يواجه واقعاً يتم فيه تقليص دخله أو امتيازاته؟ وهل سينقذ ذلك الموازنات على المدى القصير؟

إنّ الأمر أبعد من تجاوز مرحلة مؤقتة يمكن أن يمتد فيها انخفاض الأسعار لفترة قصيرة ربما تمتد لسنة أو اثنتين، إنما هو فرصة تاريخية لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية لو تمّ العمل بها منذ منتصف الثمانينات بدلاً من التسويف والترحيل والاعتماد على عنصر التكيف لما كان الحديث اليوم عن عجوزات في موازنات دول إيراداتها كبيرة وشعوبها صغيرة، وإن لم تغتنم هذه الفرصة في بناء دول قائمة على المواطنة والمبادئ التي تحكمها من عدل وحرية ومساواة وتكافؤ في الفرص، فهناك تحديات ستضاعف من توتر العلاقة بين الحكومات والشعوب، فالحكومات الخليجية مطالبة بتوليد بين 12 إلى 14 مليون فرصة عمل بحلول عام 2030م، فكيف تستطيع توفير هذا العدد من الفرص دون إجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية، وبدون تقييم لصرف المال العام، ومعرفة المواضع التي يهدر فيها، وبدون مراجعة لسياسات التعليم ورفع جودة الخريجين، وبدون شراكة في اتخاذ القرار.

لا شك أنّ المواطن في الخليج سيواجه عاجلاً أم آجلاً، واقع أفول الدولة الريعية، وسوف تتكرر على مسامعه خطابات رفع الدعم وتقليص الإنفاق، بل إنّ البعض تحدث بنبرة هادئة عن أن المواطن ينتفع بخدمات مجانية بدون دفع ضرائب كما يفعل المواطنون في أماكن أخرى من العالم، رغم الاختلافات الكبيرة بين السياقات الجغرافية والسياسية، والتي يأتي في مقدمتها اختلاف درجة المشاركة في اتخاذ القرار والرقابة على المال العام، وستكون قدرة المواطن في مواجهة هذا الواقع ضعيفة جدًا، فهو لن يكون أقوى من الدولة التي لم تنجح في التخطيط لمواجهة مثل هذا الواقع، ولم تأخذ أي حساب له حين الكل يطالبها بذلك خلال العقود الماضية.

إنّ أحد المسارات التي يُمكن العمل عليها من أجل تقوية مناعة الدولة والمواطن لمواجهة ما يحمله المستقبل هو تعزيز المواطنة القائمة على المشاركة الحقيقية في توجيه الشأن العام في مختلف جوانبه، لأن تعزيز المواطنة يعني تحويل المواطن من متلقٍ سلبي للهبات والامتيازات إلى منتج ومنافس للحصول على أكبر من المكاسب التي تؤهله مؤهلاته للحصول عليها، كما يعني تحويل الحكومة من غاية إلى وسيلة لإدارة الشأن العام، وبالتالي لا تصبح المتحكم غير القابل للمساءلة في إنفاق المال العام، كما يعني تعزيز المواطنة هنا إعادة الهيبة للنظام والقانون وجعلهما المسطرة التي يتساوى عندها الجميع، بدون الإصلاح السياسي لا يمكن تحقيق إصلاح اقتصادي، هما وجهان لعملة واحدة في المنطقة، ولن تحقق المعالجات الاقتصادية المنفردة نتيجة إيجابية بدون أن تكون جزءًا من مشروع شامل لتعزيز المواطنة، التي تجعل الجميع يشعرون أنّهم مواطنون متساوون بدلاً من أن يظلوا مجرد أصحاب اميتازات متنافسين.

تعليق عبر الفيس بوك