لماذا لا تعتبر الدول من التحولات السياسية والفكرية؟

عبد الله بن على العليان

التغييرات والتحولات الرهيبة التي عصفت بالعالم وما تزال، والمتغيرات الفكرية في حياة هذه الشعوب جديرة بالتأمل لأنّها حقيقة ذات أبعاد كبيرة وانعكاسات ربما تكون إيجابية أو غير ذلك تمشياً مع المفاهيم والمعايير التي تُحدد مسار هذه المتغيرات.. فمن كان يتصور على سبيل المثال أنه خلال أقل من نصف قرن من حركة التاريخ، أن ألمانيا ستتوحد مرة أخرى بعد الزلزال الذي حدث في شرق أوروبا في أواخر القرن الماضي، أو أنّ المتغيرات نفسها في الاتحاد السوفييتي ـ سابقاً ـ ستؤدي إلى ما أدت إليه من ظروف تصل إلى تفكك هذه الدولة العظمى وتراجعها عن مكان الصدارة، أو أن الولايات المتحدة ستتعرض لهجمات في سبتمبر 2001 في قلب مدنها الكبرى تقلب الكثير من المفاهيم والأفكار والنظريات في قدرة هذه الدولة المعلوماتية وإمكانياتها العسكرية في القرن الحادي والعشرين .

ومن كان يظن قبل ذلك أن اليابان التي هزمت في الحرب الكونية الثانية ستعود أكثر قوة اقتصادياً وتكنولوجياً من أوروبا المنتصرة في جوانب عديدة بينما تظل أمم أخرى من العالم تُعاني من التخلف والتبعية في عالمنا الراهن على المستويين الحضاري والسياسي والفكري ومن كان يشك في أن أسبانيا التي ورثت عنفوان الحضارة الإسلامية وأضافت إليها دفعة جغرافية وعسكرية أوصلتها وشقيقتها البرتغال إلى أطراف العالم ووضعت أيديهما على مشارق الأرض ومغاربها ستؤولان بعد عقود عديدة من الزمن إلى أن تكونا في ذيل الحضارة الغربية المعاصرة وفي خطوطها الخلفية بحيث أن أحداً لا يكاد يرى لهما أي دور في ميادين هذه الحضارة، بل من كان يشك في أن الإمبراطورية البريطانية التي عرفت باتساع مستعمراتها المترامية الأطراف وقوتها وامتداداتها في الربع الثاني من هذا القرن ستتراجع إلى الوراء قليلاً في مدى لا يزيد عن عقد أو عقدين ثم تدخل في دوامة الأزمات السياسية والاقتصادية المتعددة.

من يظن أنّ الربيع العربي سيعصف بحكام ورؤساء، وسيقلب الأمور رأسا على عقب سياسيا وفكريا، وستختفي الأنظمة القائمة في العديد من الدول، وتأتي أنظمة أخرى مخالفة لها في الفكر والرؤى إلخ:

كل هذه الظروف قد تكون خافية على الكثير من المحللين لأنّه ليس بإمكان أي مفكر أو باحث أن يحكم سلفاً حكماً إيجابياً يحدد تحديداً جازماً ما ستؤول إليه حضارة معينة أو مجتمع معين في فترة يقدرها حسب توقعاته لأن ذلك أقرب إلى التخمين.

يقول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه الذائع الصيت (انتهزوا الفرصة) يجب علينا أن نقلل من أهمية عدم القدرة على التنبؤ بمجريات ... فالقائلون "بنهاية التاريخ"ـ ويقصد ما قاله فرانسيس فوكوياما في الكتاب الذي أصدره عام 1992ـ قد ثبت أنهم على خطأ فقبل حوالي مائتي عام تكهن "إيمانويل كانت" "بسلام دائم" وشيك كنتيجة لانتشار الديمقراطية في العالم لكن ظهور الشيوعية والفاشية والنازية كانت مفاجأة بلبلت نبوءته نحن لا نستطيع أن نقلل من احتمال أن تفعل نفس الشيء من جديد كما لاحظ بول جونسون "أن أحد دروب التاريخ هو أنه لا توجد حضارة أبدية وإن خلودها لا يمكن ضمانه وهناك دائماً عصر مظلم ينتظرك عند الزاوية فإذا لعبت أوراقك بصورة سيئة فإنك سترتكب ما يكفي من الأخطاء".

لا جدال أنّ القيم المعاصرة في إطارها الواقعي تركز في موضوعها على العلاقات المصلحية والتبرير "البرجماتي" العملي فحصرت الأهداف والتوجهات في هذه الزاوية وتكاد لا تبرح عن مضمونها حيث نقيم في أسر الحيز والنسبية الأمر الذي يعوق مسيرة الحركة الحضارية وتوازنها الخلاق ويؤول بها إلى التدهور والسقوط .

ويقول في هذا الجانب الهام الدكتور عماد الدين خليل "إنّ القرآن الكريم يرسم خطاً جديداً في تصويره للعلاقة بين الإنسان والعالم خطاً يقوم على الوئام والانسجام وبين الوفاق والتجانس وبين الجبرية والفردية وبين الفعل والتأمل ما دام الإنسان مزيجاً معقداً بين الروح والجسد فإنّ تلاؤم هذين الجانبين وما يتفرع عنهما من قوة وطاقات هو الوضع الطبيعي الذي يمكن الإنسان من بذل الحد الأقصى لطاقاته وقدراته وبالتالي تسيير العجلة الحضارية بسرعة أكبر وإنجاز أبدع وأن الصراع بين هذين الجانبين أمر شاذ يؤول إلى تفكيك وحدة البشرية وتمزيقها الأمر الذي ينعكس بالضرورة على الفاعلية الجماعية فيصيبها بأكثر من خلل يُعرقل مسيرتها الحضارية".

فلذلك يرى "أنه بمجرد أن نتفهم الأبعاد الحقيقية لمسألة "التوازن" فنضع أيدينا على أحد المفاتيح الأساسية لتفسير جانب كبير من تواريخ الأمم والشعوب والجماعات والحضارات أيضاً أنه حينما افتقد الإنسان فرداً أو جماعة توازنه في أمة أو حضارة ما حيثما حل محله "الانحراف" كبديل لا مفر منه".

والولايات المتحدة تسعى إلى صياغة تاريخ جديد للشرق الأوسط وفق رؤيتها وبرامجها وأهدافها من دون أن تستفيد من تجارب التاريخ ومتغيراته التي عصفت بالعديد من دول العالم عندما نهجت أسلوب القسر والفرض على الشعوب. وتلك نظرة قاصرة أثبتت عقمها وفشلها، بل ربما يعجل ذلك بانهيار النموذج المستبد، وهذا ما تريده الولايات المتحدة، عندما أعربت عن أن هدفها بعد الانتهاء من حرب العراق السعي إلى صياغة نموذج جديد للمنطقة العربية، ولم تتوقف عند هذا الحد بل إنها أرادت أن تتقبل الدول الأخرى حتى الكبيرة منها ما تريده وما تسعى إليه بدون معارضة أو رفض، وما يجري في مجلس الأمن ـ هذه الأيام ـ لهو شاهد على تلك النظرة الأحادية في تعاملها وتعاطيها في المسألة العراقية وغيرها من المشكلات العالقة وإن كانت المياه تجري في غير صالحها حتى في بؤر التوترات! .

فهل يعيد التاريخ نفسه؟ أم أن الحضارات هي التي تتراجع وتنكمش لأسباب لا مجال لسردها الآن، ومن ثم تعود أحداث التاريخ بنفس الوتيرة السابقة؟ فنتوهم أن التاريخ يعيد نفسه وهو ليس كذلك، وفي تلك عبر كثيرة جديرة بالتأمل والمراجعة.

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك