دُرَّة المهرجانات

سالم الكثيري

يُؤكِّد العلماء أنَّ الدلائلَ الأثرية تُشير إلى وجود الإبل في الجزيرة العربية منذ الألف السابع قبل الميلاد، وأنَّ من الأسباب التي دَعَتْ إلى انتقالها إلى ظفار هو التغيُّر المناخي الذي حول الربع الخالي إلى صحراء قاحلة، وقد يفسر لنا هذا الامتداد الحضاري الضارب في جذور التاريخ سر الارتباط الوثيق بين العُماني وناقته في كافة ربوع السلطنة. وعلى الرغم من أن البيئة المثالية للإبل في مختلف مناطق العالم هي الصحراء، إلا أنَّ وجودها في جبال ظفار يُشكل حالة اسثنائية لافتة، وهو ما عدَّه الرحالة بن بطوطة من الغرائب؛ فلم يشاهد خلال رحلته المشهورة حول العالم إبلا تتسلق الجبال الوعرة حسب وصفه إلا في ظفار.

لا تزال الناقة مُلازمة لابن الصحراء أينما حلَّ وارتحل، كانتْ الراحلة والمؤنس في الوقت عينه، على ظهرها يحمل الماء والزاد والمتاع، وعليها يركب الضعيف والمرأة والطفل والمستجير والفارس الشجاع، قرَّبت له المسافات؛ ليصل البوادي بالحواضر ويطوف المدن والبلدان فخلَّد لنا مجدا وتقاربا تجاريا وثقافيا وحضاريا على مر العصور، لقد سطَّر هذا العربي وناقته أعجب القصص في الصبر والتحمل والوفاء فهو بها يتغنى ومن أجلها يثور وعنها يدافع ولو كانت روحه فداها.

وهكذا لم تتغيَّر العلاقة بين الإنسان العُماني وبين ناقته بتغير الزمان؛ فعلى الرغم مما نشهده من تطور في وسائل النقل والسفر ظل يحافظ على علاقته الحميمية هذه ويتخذ منها موروثا حضاريا يعتز به ويسعى لإبرازه في مختلف المناسبات الداخلية والخارجية. صحيح أننا في الجزيرة لم نعد نطوي الفيافي والصحاري على ظهور الجمال، ولكننا ما زلنا نحفظ للإبل ودها ومكانتها وتاريخها.

وتتميَّز الإبل في سلطنة عُمان بجمالية فريدة وسرعة فائقة وغزارة الحليب حتى أصبحت صفة الكرم ملازمة لها؛ حيث يقصدها القاصي والداني دون معرفة مسبقة بمالكها، فلبنها الصافي للجميع وليس في ثقافة مالكها الإعتذار للضيف؛ فواجب الكرم والضيافة يفرض عليه أن يحلب "العُمانية الأصيلة"، ولو حلَّ عليه ضيفا كل ساعة، وهي مُستعدَّة للإدرار حتى في أصعب الظروف. ولعلَّ هذا ما حدا بمنظمي مهرجان خريف ظفار للمزاينة والمحالبة إلى عنونته بـ"مكرمات الضيف" بصورة ثابتة وعدم تغييره سنويًّا.

لقد شكَّل هذا المهرجان نقلة نوعية في مهنة تربية الإبل؛ حيث ساهم بدرجة ملحوظة في توجيه الملاك إلى الاهتمام بالسلالات وتحسينها، بدلا من الأعداد الكبيرة غير المنتجة؛ حيث يتضح هذا الأمر بجلاء من خلال مشاركات المواطنين عاما بعد الآخر فعوضا من يأتي المالك بنصف إبله للمشاركة مثل ما حصل في البدايات الأولى أخذ الجميع ينتقي ما يمكن أن ينافس على المراكز الأولى، وهكذا تحقق هدف المنظمين بأهمية الوعي بالكيف وليس الكم في فترة قياسية لا تتعدَّى الأربعة أعوام. كما بيَّن أنَّ الإبل في محافظة ظفار تتميز بغزارة في إنتاج الحليب وتدر كميات كبيرة جدا، إضافة إلى منافستها في مسابقات المزاينة التي كانت تقام في مناطق ومحافظات السلطنة الأخرى وتعتبر جديدة خاصة في السهل والجبل وأن المسألة لا تتعدَّى الاهتمام والتدريب.

لقد حقَّق هذا المهرجان نجاحا كبيرا واستقطب المشاركين من مختلف مناطق السلطنة ودول الخليج العربي، ونال إعجابهم إلى حدٍّ بعيد حتى إنَّ الكثيرَ منهم أكدوا أنَّه تجاوز المهرجانات الأخرى في حسن التنظيم والحضور الكبير بمراحل على الرغم من أنه أحدثهم، وقد ساهم من جانبه في إثراء الحركة السياحية التي تشهدها المحافظة في هذا الموسم بشكل ملحوظ؛ لذا حق له أن يكون "دُرَّة المهرجانات" كما أطلق عليه زميلنا سهيل النهدي الكاتب في جريدة الوطن والمتخصص في شؤون الهجن.

... هذا هو العام الرابع للمهرجان الذي يختتم بزخمه وسمعته الطيبة وبجوائزه القيمة الجمعة 21 أغسطس بعد أسبوعين من الفعاليات المثيرة والتنافس الشريف وحركة البيع والشراء المتواصلة؛ فنتمنى أن تستمر هذه التظاهرة من الموروث التاريخي في موعدها سنويا، وأن يستمر دعمه من القطاعين الحكومي والخاص، والذي كان لدعمهما الأثر البالغ في هذا النجاح. فتحيَّة لكل هذه الجهات؛ بداية من وزارة الشؤون الرياضية -ممثلة في اتحاد الهجن- ومكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار -ممثلا ببلدية ظفار- ووزارة الزراعة والثروة السمكية -ممثلة بالمديرية العامة للزراعة في محافظة ظفار- وشرطة عُمان السلطانية...وغيرها من الجهات الحكومية، والشكر لكل الشركات الداعمة. وتحية للقائمين على هذا المهرجان منذ أن كان فكرة وليدة عابرة ولكافة أبناء محافظة ظفار الذين بذلوا من جهدهم ووقتهم ومالهم وتجاوزا كل التحديات وعملوا بشكل إداري منظم لتكون النتيجة هذه الصورة الباهرة من النجاح.

تعليق عبر الفيس بوك