هل أُسدل الستار؟

هلال الزيدي

مُنذ فترة بعيدة أَسدل المخرج ستار الفصل الأخير على العرض المسرحي "ذروة العروض المسرحية"، الذي أشعلَ الخشبة وتراشق فيه المختصون والهواة عبارات النقد والثناء؛ فثار لديهم الحماس على توصيف وتنظير ذلك العرض الممتد بجُملة من العروض -أو دعوني أسميها الفعاليات المسرحية- التي شهدتها الساحة المحلية؛ فكانت السينوغرافيا ملاذا لتلك النصوص التي كُتبت من أجل تحريك الممثلين على الخشبة، فارتفعت على إثرها الموسيقى، فنعق الممثل الهاوي بصوت عالِ، يحسبُ أنّ المسرح صُراخ وثُغاء؛ فالتقمه المختصون (وهم قلة)، فعاد مُنكسرا، وصفق له متسوروا الخشبة وألبسوه ثوب الأنا، وهاجت الحالة الشعورية لدى المخرج فأغرق العرض في رموز وشعوذات من أجل كسر الحالة، وتقديم الشيء المختلف؛ حتى يقال بأنه تمرد على النص بحسب رؤيته هو.. فدارت الأحداث وسط تفاعل مُتفاوت من جمهور النخبة، لينتهي ذلك الفصل، ويتحوَّل الحراك المسرحي إلى مسرح مناسبات أو مهرجانات من أجل الجائزة فقط.

يعودُ احتضار المشهد المسرحي إلى كثرة أشرعة الفرق التي تجدف كل واحدة في اتجاه؛ فالفرق المسرحية -وبعد صراعٍ طويل، وضربٍ من تحت الحزام- لم تستطع أن تُلملم مشاهدها المبعثرة في عرض واحد يُحقِّق المسرح فيه الرسالة الإنسانية للمجتمع؛ فابتعد عن قضايا وهموم الناس، فعدُّوه دخيلا عليهم لأنه لا يمثلهم.."إلا اللّمَم".. ومع اتساع هوة الخلاف تخلى الداعمون له حرصا منهم لإنقاذ أنفسهم وما تجود به أيديهم من أجل نجاح عرض ما في زاوية ما؛ وبالتالي ضاقت الخشبة على الكثير بسبب الخلاف الفج الذي ولَّد انقساما في صفوف المسرحيين؛ ليتحول معظمهم إلى مؤسسات إنتاجٍ للدراما.. وفي هذا رؤية أخرى؛ فتبعثرت الأمنيات بحسب القبلة التي ولوا شطرها؛ فكلُّ شخص أراد أن يكون في المقدمة، فأصبحوا جميعهم في المقدمة دون وسط وخاتمة، لكن بطريقة معكوسة؛ فكان المشهد مبتورا، خاليا من المممثلين وعناصر المسرح الأخرى.

الجمهورُ المسرحيُّ عنصر أساسي في تكوين المسرحية؛ لذلك لم يستطع المسرح -وبعد فترة مخاضه العسير- أن يوجد جمهورا متتبعا للحركة المسرحية، وهذا يعود إلى ضعف الإمكانيات وقلة النصوص التي يجد الجمهور فيها نفسه؛ لأنَّ النصوص جاءت مُعلَّبة تحكي عصورا بعيدة وأزمنة سحيقة لا تستوي على مقاس مجتمعنا في هذه الفترة. ولأمانة القول، كانت في فترة "ما" تلامس الواقع؛ لذلك شكَّلت حراكا لا بأس به. وبسبب تبعثُر الأوراق وانطفاء الإضاءة لم يظهر على الخشبة ما يُمكن أن نسمِّيه مسرحا يُخاطب الفكر والوجدان الإنساني خلال عشر سنوات الأخيرة؛ لينحدر هذا الفن وتتكوَّر الخشبة على نفسها، ويتجه الممثل والمخرج والكاتب إلى الشاشة التي تحقق الشهرة لمن يريد، لتبقى التجربة على عتبة "كنا زمان".

الإبداعُ الإنسانيُّ لا يتوقف عند حدٍّ معين إذا وجد البيئة الحاضنة له.. والبيئة هُنا هم الأفراد الذين يُشكلون الحالة الإبداعية؛ لذلك عندما انكسرت الجماعة تشتَّت الفرد، وأصبح لا يُمثل قوة تصارع من أجل البقاء؛ لتغدر به الظروف ويصبح الإبداع المسرحي أثرًا بعد عين؛ فهناك من يتألم، وهناك من يتعلم، وهناك من يتأقلم على ذلك الوضع، لكنَّ المتألم من انحسار الحركة المسرحية هو من يحمل العبء الكبير في هذه العملية؛ لأنه يحلم يوما أن يكون المسرح مدرسة فكرية تنويرية تقوّم مسارات الحياة وسط فرجة مليئة بالأحداث الواقعية؛ فيتطوَّر مع تطور المجتمعات؛ فيؤثر ويتأثر بمستجدات الحياة. وأحيانا تجده يتنبأ بأحداث قد تحصل جراء انغماس في مسار معين في المجتمع وتكويناته المختلفه؛ لذلك ضاعت هويته الأصلية، وما تبقى مجرد "اسكتشات" مسرحية لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

لا تظنوا بأنني سلبي في طرحي، ولكنَّني أحاول أن أشخِّص مشاهدتي للفصول المسرحية في الحياة اليومية، فلا تتضح لنا إرهصات ولا حتى إسقاطات من باب تكوين الحدث، أو الغمز بوضع سائد؛ وذلك من أجل تحريك الماء الآسن الذي فاحت راحته، ولم يتبقَ للفن المسرحي وجود.. بعد أن كان حالة متوهجة في مختلف مسارح السلطنة؛ لأنَّ النظرة تغيَّرت فأصبحنا ننتظر من وزارة التراث والثقافة إعلانًا عن مهرجان الفرق؛ ليشتدّ الحماس وتُشد الفرق أشرعتها لمدة أسبوع واحد حتى تُحقق "الجائزة" وماذا بعد ذلك..؟ بعد ذلك بيات شتوي أو صيفي تتقلص فيه التجربة وتنكمش على نفسها؛ فتصبح صيغة مُعادة مع كل موسم مهرجاني.

همسة:

"كأنني أستشعر جفاءك.. قل وقوفك على خشبة الواقع، لا أدري هل تنوين إغلاق الستارة، أم أنك تشبَّعتي من مشاهدتي ومتابعتي لك؟ ربما.. لكن بالنسبة لي لا يزال العرض في بدايته وأنا أستشعر وجودي فيه؛ فأنت خشبة ممتدة مُتجددة.. وأنا هواء يتمدَّد في مجاريك، وأذهب عميقا في أوردة الدم... فلا تستدلي الستار؛ لأنني أنا هنا شاخص البصر من أجلك.

* كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك