أسس المدنية الغائبة

رحاب أبو هوشر

يبدو مشهد الطامحين للعيش في مجتمع أفضل، أكثر تحضرا وانسجاما مع مفاهيم وقيم الحياة المدنية، شاذا وغريبا عن السياق الاجتماعي العام. يضيق عليهم الخناق، ولا يجدون مساحة ولو كانت ضئيلة، لترجمة أفكارهم ومعتقداتهم في سلوك عملي، لمحاصرتهم بنمط من التفكير والسلوك، واحد ووحيد يعترف به المجتمع، على خلفية منظومته الفكرية والأخلاقية والسلوكية السائدة، المفتقرة للمعايير المنطقية، والمنفصلة كذلك عن الحداثة كمفهوم منتج لقيم ومسلكيات اجتماعية جديدة، فهي منظومة تستند إلى خليط من العادات والأفكار الموروثة، التي انقطعت مبرراتها التاريخية والبيئية، وما زالت تكافح بضراوة للحفاظ على ديمومة وجودها وفاعليتها، رغم التقدم التقني الهائل، والتغير الكبير في علاقات المجتمع.

ثقافة المجتمع بقوانينها الخاصة، لم تتبدل في أساسياتها الجوهرية، وإن ادعت مطالبتها أو تبنيها لهيكلية الدولة الحديثة ومؤسساتها، ولم تستوعب القوانين والأنظمة المتصلة بنمط عيش اختلف اليوم إلى حد كبير، ويفترض أنه نمط مدني أو في طور المدنية، ولذلك لم يرتق السلوك المجتمعي، ليتواءم مع الانتماء على الأقل لعصر ثورة التكنولوجيا. نلمس التناقضات الصارخة في كافة مناحي الحياة وتفاصيلها، ليس بدءا من الفوضى وعدم احترام النظام، ولا انتهاء بحلم المواطنة وحقوقها.

إن حاول أحد المؤمنين بضرورة احترام الآخرين وعدم الاعتداء على حقوقهم، أن يلتزم دوره في طابور التسوق مثلاً أو في محطات تعبئة "البنزين"، سيجد نفسه وقد انتهى في المؤخرة وحيداً، بعد أن يتقافز من حوله آخرون بسلوكهم الفوضوي، غير عابئين بأي قيمة سلوكية حضارية، وإن احتج على سلوكهم، ووجه بالسخرية واتهامه بالادعاء والفذلكة. هجوم دائم ومألوف من عاجزين عن التطور، ومتعنتين إزاء كل محاولة لتفكيك قيمهم السلوكية، والاعتراف ببدائيتها وفجاجتها، سعياً إلى تغييرها.

تكرار المحاولة الفاشلة من قبل ذلك الشخص، لتعميم النظام كقيمة يتوجب على الجميع الإيمان بها، والعمل بمقتضاها، سيحولها إلى تجربة بائسة وعبء ثقيل، حين يبدو صارخاً في العراء، وقد يصاب باليأس لينضم في النهاية إلى كتلة الفوضى، التي لا يضيرها العيش وفق منطق الغابة المنفلت، وإن كانت تستخدم الإنترنت، وتستورد أحدث الأجهزة الإلكترونية. إنها كتلة لا تؤمن بأنظمة مدنية تحدد العلاقات بين البشر، على أساس الحقوق الفردية للأشخاص والحقوق العامة للمجتمع في نفس الوقت، لكنها تؤمن فقط بنظام الغرائز البدائي، حيث يأخذ الواحد حقه بالقوة، أيا كان نوعها وشكلها، "بذراعه" وليس بذراع القانون وقوته.

ولا يمل المجتمع ومؤسساته من ازدواجية الخطاب. إنها إحدى مكونات ثقافته السلطوية، وما هو محظور في العلن، يمكن ممارسته سرا، ولكن المجتمع يتمادى أكثر عندما يصدق كذبة أطلقها، حتى ينسى أنها كذبة! فالحديث عن تكافؤ الفرص ومعيار الكفاءة ومبدأ العدالة لا يتوقف في العلن، لكننا نلتقي باستمرار أشخاصًا تتسع عليهم مواقعهم الوظيفية، حتى لا يكادون يلحظون، ومع ذلك يستمرون في تلك المواقع، بل وينالون الترقيات والمكافآت، بفضل "الواسطة" واستثمارهم في العلاقات الخاصة والعامة، وإجهازهم المتواصل على قدرات وطموحات المنافسين، منعًا لانكشاف ضعف قدراتهم وتخلف أدائهم المهني.

لا يتوقف الحديث إعلامياً، عن القوانين الضابطة لشغل الوظائف، أو الحصول على الخدمات التي يتعين على الدولة توفيرها لمواطنيها، وعن وجود لوائح وتعليمات تحدد المؤهلات والشروط، تمامًا كأيّ مجتمع حديث تحكمه القوانين والأنظمة، ويعامل أفراده بصفتهم مواطنين متساوين في الحقوق ومتكافئين في الفرص، ويخضعون لشروط التنافس بناء على مؤهلاتهم وكفاءة مهاراتهم وقدراتهم، كما يحصلون على الخدمات، وفق نظام عادل يساوي بينهم. أما الواقع الحقيقي فيقفز عادة عن كل ما ينشر ويروج، ومعظم الناس يتندرون على تلك اللوائح والتعليمات بوصفها حبرا على ورق أو "حكي جرايد"، ويلجؤون لـ"الواسطة"، الحل السحري وكلمة السر التي تفتح أمامهم كافة الأبواب الموصدة.

مهمة المثقف المتطلع لمجتمع مدني وحداثي بالمعنى الشمولي العميق، مهمة صعبة للغاية في مواجهة هذه الوضعيات المختلة، فهو لا يمثل تيارا كبيرا ومؤثرا في المجتمع، كما أنه لا يملك خيارات عديدة، لا سيما في التعاطي مع تفاصيل عيشه اليومية، ولا يكون أمامه إلا أن يرفض ذلك السلوك الاجتماعي الفاسد والمتخلف، تمسكاً بقيمه ورؤيته لمجتمع مدني يحكمه القانون والنظام، وعندها سيخسر مكتسبات، بعضها حقوق قانونية له كمواطن، ولكنه يعلم أنه لن ينالها إلا بالمرور في دروب غابة الأقوياء. أما البعض الآخر، فإنه يستسلم بعد سلسلة من الضربات، وربما يحتفظ بما آمن به يوماً لدوافع الحنين، ويذهب إلى الخيار الوحيد المتاح، ليكون واحداً من كتلة الفساد والتخلف.

تعليق عبر الفيس بوك