نحن والحقوق والحقوقيون

علي المعشني

سألني صديقٌ: ما تعليقك على اعتقال الحقوقيين، ونفي بعضهم للخارج؟ فأجبته: بأنَّ من أعرفهم شخصيًّا من "الحقوقيين" هم من مُراهقي الفكر، ولا يمتون إلى الحقوق والحقوقيين بأية صلة. وهذا على كل حال من باب التوصيف والتشخيص، لا من باب التجريح والتشهير والتسفيه على الإطلاق.

فهؤلاء مجرد مطية لمخططين ومستثمرين سياسيين دُهاة يعملون من خلف الكواليس عبر هؤلاء الأدوات، وما جنيناه من الربيع المشؤوم من أمثال هؤلاء الحقوقيين والناشطين...وغيرها من الألقاب المجانية التي تُهديها أقنية الضلال والفتنة، وتوزعها وفق أهواء سادتها الغرب، لم تعد خافية على أحد من العقلاء اليوم. ويكفينا عبرة ما أحدثه الناشطون المزعومون في مصر وليبيا وتونس وسوريا، والذين تطوَّعوا جهلًا لتمزيق أوطانهم وتفريقها شيعًا ومناطق ومذاهب بزعم الإصلاح والقضاء على الطغاة والخونة والفساد، وجلب الحريات وتحقيق العدالة.

الحقوقيون والناشطون الحقيقيون في العالم الحُر، هم من النخب المتُشربة بالوطنية والمتسلحة بالوعي السياسي العميق، وأطوار الدول وتحولات المجتمعات والشعوب ونظريات الحكم وقواعده؛ وبالتالي فليس من اليسير التغرير بهم أو المزايدة عليهم أو التأثير عليهم وحرف بوصلة اهتماماتهم وأهدافهم لإصلاح أوطانهم ومجتمعاتهم بصمت وبدون ضجيج أو استعراض، ووفق الممكنات وبأدوات الوطن وعهد وميثاق المواطنة.

فالحقوقي لا يستورد قناعاته من أحد، ولا يكون ضلًا أو امتدادًا لأحد، خاصة إذا كان هذا "الأحد" هو الغرب الاستعماري، العدو التاريخي للأمة من المهد إلى اللحد.

ما يدعو إليه ويُغرِّد به من يُسمُّون أنفسهم بالحقوقيين اليوم، من حريات وحقوق وعدالة اجتماعية وديمقراطية، هي قيم إنسانية فطرية لم يخترعها أحد من البشر وليست ملكًا لأحد، حتى نتعلم منه كيفية ترسيخها أو مبادئ تطبيقها؛ وبالتالي فهي حاجات معنوية فطرية للمجتمعات والشعوب متى ما احتاجتها استدعتها وطبَّقتها بالمقدار والطريقة المُثلى لها، وفي المرحلة والطور المناسب لوعيها ونموها وأولوياتها، دون وصاية أو تزكية أو دفع من أحد، بالداخل أو الخارج.

ومن هنا، فلا يُعقل أنْ يرفض عاقل تلك القيم الفطرية في الإنسان، كما لا يُعقل أن نُثقل على مجتمعات فتية بتجارب عمرها يفوق القرنين ونصف من الزمان، كالديمقراطية الليبرالية الغربية، مع نسيجها الثقافي الغربي، بزعم التطور واللحاق بركب الأمم. دون النظر بعمق إلى منظومات الحكم لدينا، أو النسيج الاجتماعي والطائفي والموروث التاريخي لمجتمعاتنا، وقبل كل هذا، منسوب الوعي لدى المجتمعات لتحقيق التفاعل الإيجابي مع هذه الأطروحات الثقافية، والتي تتطلب بنية معرفية وقيمية ووعي عميق، يستبدل الأنا الصغرى بالأنا الكبرى، ويُضحي بالهويات الفرعية من مناطقية وقبلية ومذهبية لتحقيق الهوية الكبرى وهي الوطن وحزب الوطن والمصلحة العليا للوطن.

فلنتأمل في رقعة الوطن العربي الكبير ومراحل وأطوار دولة الاستقلال العربي، ونتساءل عن ماذا قدمت لنا الثقافات السياسية المستوردة والتي مضى على عمر بعضها ما يزيد على قرن من الزمان، كالتجربة الحزبية مثلًا، والمجتمع المدني، والتجارب البرلمانية؛ حيث لم تقدم تلك التجارب في مُجملها سوى جُرعات من التخلف الممزوج بالتحزبات الجديدة المقسمة للحمة الوطنية، والمنهكة للحصانة المجتمعية، وتشتيت الإجماع وهدر الموارد العامة وبالقانون، وأقنية اختراق أمني وثقافي ووكلاء تغريب بامتياز.

وفي العام 2001م، اطلعت على كتاب قيِّم بعنوان "نهاية الديمقراطية"، من تأليف جان ماري جونيو وتعريب ليلى غانم، تحدَّث فيه المؤلف عن الكثير من مؤشرات انهيار الديمقراطية في الغرب.. واصفًا ومشبِّها انهيارها بانهيار جدار برلين؛ ذلك الجدار الذي يرمز إلى الصراع وأدبياته وأهميته وأسراره، وبانهياره انهارت معه الكثير من عوامل وعناصر البقاء والقوة معًا في الغرب، وأصبحت الديمقراطية شيئًا من التراث؛ فزادها الاتحاد الأوروبي وغياب الدولة وأفول السيادة، لتزداد الأمور كارثية للغرب ونموذجه الديمقراطي.

وتقول مُعرِّبة الكتاب ليلى غانم في تعليقها على مادته: "الحقيقة، إن المفكرين في الغرب نادرًا ما يتعلقون بهواية لعبة الأفكار المنزوعة عن شروطها؛ وهم غالبًا مفكرون اجتماعيون، بقطع النظر عن الميدان الذي يعملون به، والأفكار عندهم هي صدى المجتمع الذي يفكرون فيه وهم بهذا المعنى ينتمون بأسرهم إلى مجتمعات".

ثم تقول: "وعلى العكس من ذلك، لا يتمتع أغلب "المثقفين" المحدثين العرب بفضيلة الانتماء". وللأسف يتخذ عملهم طابع الحرفة أو المهنة ما يُؤدِّي بهم إلى مجانبة الإبداع الفكري في معطيات مجتمعهم ويقتصر على الذهنيات السريعة القريبة من الدعوات والدعاوي. ومن يعرف منهم ذلك يُغالي عمدًا بالانتماء إلى الفكر المطلق دون ركيزة مجتمعية أولى". وفي موضع آخر تقول: "كنا نودُّ القول بأنَّ الغرب اعتاد تصدير "البضاعة المكسورة" إلى أسواق "البلدان المتخلفة"؛ سواء عني الأمر الآلات والسيارات المستعملة أو المعلبات والمواد التي شارفت على نهايتها...إلخ، لكن في هذه الحالة العينية حريٌّ بنا القول بأن بعض "المثقفين" العرب (والعالم الثالث) هم الذين اعتادوا استيراد تلك البضاعة المكسورة وتسويقها" (انتهى).

إذن؛ فحُمَّى النشاط الحقوقي والسياسي اليوم في الوطن العربي، ليست وليدة الصدفة وحدها أو لنضوج الشعوب وحاجتها، بل استباق من الغرب للإجهاز على مشاعر التغيير والإصلاح الوطنيين في الوطن العربي، بتسويق ليبراليته الكاسدة عبر هؤلاء النشطاء لإعاقة النمو الطبيعي والحاجات الفعلية لهذه الشعوب، ولتكريس التبعية والولاء والانقياد للغرب عبر هذه القوى الناعمة والمدغدغة لأحلام الشعوب والنُخب المُغرر بها لعقود أخرى قادمة. خاصة وأنَّ الغرب النرجسي يعتبر نفسه وصيًّا على العالم ومعِنيًّا بتصدير كل شيء له من الإبرة إلى القيم وأنماط التفكير.

لهذا؛ فما نراه اليوم من استقبال الغرب لنماذج من هؤلاء المنعوتين بـ"النشطاء العرب"، ما هو إلا خطة استيداع لهم لتشكيل خلايا نائمة في خطط طوارئ الغرب لبعض الأقطار العربية بقصد ابتزازها وتوظيف تلك الخلايا لمهام قادمة، كما حدث لتيارات الإسلام السياسي، وعلى رأسهم جماعة الإخوان. وإلا بلغة العقل والمنطق كان حريٌّ بالغرب أن يتحلَّى بالشجاعة والوضوح والإصرار في تغيير واقع الأقطار العربية والتي يزعم انتهاكها لحقوق الإنسان وشيوع الفساد فيها، بدلًا من رعايته المطلقة لكل فساد واستبداد بها!! فأغلبها تدور في فلكه ومحسوبة عليه، وتمثل رعايته لها سقوطا أخلاقيا معيبا بحقه.

لهذا؛ امتدَّ النفاق السياسي الغربي ليشيع كثقافة سياسية وفكرية في الوطن العربي اليوم وفي أبهى وأجلى صوره في مراحل وفصول الربيع المشؤوم؛ حيث طالبت "الشعوب" وعبر نُخبها برحيل "الطُغاة" و"العملاء" مستعينة بُصناع الطغيان والعمالة أنفسهم وهم الغرب، في تجسيد لفصام فكري غير مسبوق في التاريخ البشري. ويدعم الغرب النُظم "الطاغية" و"المستبدة" عبر تاريخه الطويل، وفي المقابل يفتح باب اللجوء "لضحاياها"!!

------------

قبل اللقاء: "الوطن سفينة بلا قوارب نجاة، ووجود أخطاء لا يعني اللوذ بالخطايا.. وبالشكر تدوم النعم"!

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك