شخابيط "السيابي" على قافية السيّاب ودنقل

هلال بن سالم الزيدي

كانت ليلة الإثنين ليلة احتفائية ثقيلة .. فهي ليست ككل الليالي، وذلك من جراء ما ألم بها من مشهد وواقع أكاد أراه حلمًا يرفرف بجناحين بيضاوين ... وثقل تلك الليلة يوازي هيبة وعظمة جبال الكور أو جبال سمحان في علوها حيث كان اللب محملا ومكتنزا على آخره.. تُناوشه عظمة الأنا .. وتجره النرجسية إلى طريق لا يفضّله ولا يتجانس معه .. لأنّ الأنا والنرجسية ليست من ملابسه كي يرتديها.. لكن تلك الرسالة التي قطعت أنهارا واعتلت جسورا وغرّدت في سماوات الحياة جاءته من "هامبورج" رادة على ذلك المقال الذي كان يتحدث عن بيان وحكمةٍ من شيخ أديب أريب له في نفوسنا مكانة وفي واقعنا بصمة وعصمة .. "إلى السيابي الذي لم أره".. لأتذكر تلك البدايات التي كنت أطارد فيها الحرف كي أبني كلمة لها مفهوم ودلالة .. كمطاردة شيخنا "السيابي" للصد في حمدة السواقي في عصر من عصور تكوين هذا الكيان الذي كان له شأن وبيان.. بعد ذلك الحلم الذي اختلط بالحقيقة والواقع في رسالة الشيخ حمود السيابي لي .. أشرق الصبح مؤذنا بحياة جديدة تأخذ من الأمس جمالها وتبحر بين لجج ذلك المقال الذي نقلني من زمن إلى آخر ومن عاصمة إلى أخرى ومن تواضع إلى تواضع آخر أجده بين كل حرف من حروف الشيخ الأديب.. وهذا ليس بغريب عليه.. الذي يبحث عن نفس الرجل الذي لم أره أنا . وفي هذه الجملة غرزٌ من المعاني لمن يصله المقصد.

الصباح مختلف فهو يوحي لي بأنني ولدت من جديد إثر ذلك الغيث المريء الغدق الطبق المجلجل النافع .. الذي به أخضرت السنوات العجاف، وبدأت في تلمس طريقي المهني في سماوات الكتابة والإعلام .. في زمن كثُر كاتبوه وقل صائبوه.. وفي مقابل ذلك شكّلت لي تلك الشهادة أو الرد المحمل بنسائم هامبورج ثقلا وعذابا في مسيرتي بأنني لا أرضى إلا بما يوازي أساتذتي في منظومة الكتابة.. وهذا هو الثقل الذي سيدفعني بثقل الكلمة وعمقها المعنوي واللفظي..

وكعادة الصباح عندي.. تطل " خلود العلوية " " مذيعة هلا. أف .أم " بحكمة رقيقة جميلة عميقة في المعنى "كن حسن المظهر ولن تنساك العيون ولكن كن حسن الخلق ولن تنساك القلوب"، وحقاً أيها الشيخ لن تنساك القلوب فأنت تسكنها حتى ولو لم تراك العيون.

هذه المرة تقاطع السيدة فيروز فواصل "خلود" وهي كعادتها تعطر أجواء الصباح فتشد رحال النغم واللحن على وقع كلمات "لسان الدين الخطيب": "جاءت معذبتي في غيهب الغسق.. كأنها الكوكب الذري في الأفق... فقلت نورتني يا خير زائرة.. أما خشيت من الحراس في الطرق.. فجاوبتني ودمع العين يسبقها من يركب البحر لا يخشى من الغرق" نعم هي معذبتي التي سافرت تلاحق السحب من هامبورج لتحط بين أزقة مسكد. باحثة عني عبر أسلاك التكنولوجيا .. لتستقر بين تلك البنايات الشاهقة في "المعبيلة الجنوبية" لترى شموخ تلك البنيات التي شكّلت عمرانا جديدا في محيط هذا الامتداد.. وهنا أورد لكم الرسالة أوردها كما جاءت..

بسم الله الرحمن الرحيم


شخابيط تتسلق عرش إبداعك

أستاذي الجليل هلال الزيدي


تحية وجع الكلمة وأنين الحروف وبعد


وقفت على سطورك عن الرجل الذي لم تره، وأنا أيضًا أقاسمك البحث عن نفس الرجل الذي لم تره، فقد افتقدته منذ سنين.. أتذكر أنني تركته صغيرا في سمائل، عند أفلاج السمدي والقلعي والمريفع يعبث "بحمدة" السواقي ويُطارد الصد... وأتذكر أن والده عاد إلى الفيحاء كرمح تعلوه راية معطرة بالإمام الخليلي وصخب سنوات غالب وهيبة سعيد بن تيمور.

ومع عودته بنى والده بيتا طينياً كبيرًا نقل إليه بعض عنفوان الحصون التي عمل بها.

وكان آخر عهدي بذلك الشخص الذي تقصده أن رأيته في سبلة والده، وكان عفويا لدرجة أنه يتوهم أن بيت والده رغم صغره قياساً بقلعة نزوى، كان كبيرا كالشهباء، وكان يرى أباه وهو يرأس جلسة السبلة كالإمام الخليلي في (سحرا).

وأتذكر أن في غرفة نومه المظلمة توجد "خنشة" زجاجية ألقاها مركب هندي في فرضة مطرح، فتبضعها والده من "خور بمبه" لتستقر في جدار الغرفة كلوحة، وقد خط عليها مصممها عبارة (باكستان زنده باد) ولم يكن والده يعرف معناها، ولم يجتهد الرجل الذي لم تره في تفسيرها، رغم كثرة الباكستانيين في عُمان.

وحين ذهب إلى باكستان ضمن الوفد الإعلامي المرافق للمقام السامي في زيارته الرسمية لباكستان وجد نفس العبارة تتلألأ في كل من "إسلام أباد" "وروالبندي" "وجبال مري" ، فسأل عن معناها فقيل له أنها تعني (المجد لباكستان)، ورأى نفس العبارة تتسامى وهو يصافح أبا القنبلة النووية الباكستانية.

وكانت (باكستان زنده باده) عنواناً لمقاله في جريدة عُمان، وكان ذلك المقال بين آخر المقالات التي ختم بها عمره المهني في الجريدة، فقد عاش في جهل معنى اللوحة طويلا، ولمجرد أن أدرك معناها قتلته اللوحة والمجد الذي تتغنى به، فسيف المجد على ما يبدو أكثر حدة من سيف عنترة، رغم وميضه الأبهى من بارق ثغر عبلة الباسم، إذ بعد أيام قليلة من ذلك المقال خرج من مجد المهنة، وليته لم يفسر اللوحة التي ولدت معه وماتت مهنيًا معه، ليعود إلى الفيحاء، وإلى نفس الغرفة المظلمة يحاور طين بيت الطين، وأسئلة السواقي، وشقاوات الصد، وغموض الحمدة الخضراء، وكأن شيئاً لم يكن (وشقاوة الأيام في عينيه) .

وحين تقف أيها الأستاذ المبجل على بعض شخابيط الرجل الذي لم تره، فهي ليست أكثر من اجترار الأزمنة الندية، واستحضار حيوية الأمس الماطر قبل أن يتأثر قلمه بالجغرافيا الأوسع نطاقا من سمائل، وقبل أن ينتقل من تحفة الأعيان والعقد الفريد ومروج الذهب في "روازن" سبلة والده بسمائل الفيحاء ليتخبط في "مرتفعات وذرنج" ويتصعلك مع بؤساء فيكتور هيجو ويجره تولستوي إلى روسيا ويذهب مع الريح برفقة مارغريت ميتشل.

وقد اجتهدت سيدي الجليل وأنا أقرأ سطورك المكتوبة بمزيج من العبير والجوهر، لعلي أهتدي إلى الرجل الذي أبحث عنه مثلك، ولكنني لم أره، فأنت تتحدث عن قامة غير قامته، فالرجل المذكور كما أعرفه أقصر وأقصر وأقصر بكثير. وأنت ترفعه إلى مرتبة وهو لا يحلم بعشر عشر عشرها. ولعلك كنت تنوي الحديث عن شخص آخر كالسّياب الذي يشرب المطر مع النخل ذي السعفات الطوال، فخلطت بين مرض السّياب ومرض الرجل الذي لم تره .

ولربما في ذهنك الجنوبي أمل دنقل الذي يوشح الوصفات الطبية وشاش المستشفيات بقصائده المكتوبة بالبنسلين والمايكروكروم.

فما أكثر الكُتّاب الذين يفترشون الأسرة البيضاء بعد أن تسكبوا حبرا على الصفحات البيضاء، فحضروا في الزحام فجأة، وأنت تهم بالكتابة عن الرجل الذي لم تره .

ويبقى نزيف حروفك عن رجل لم تره أرفع الأوسمة وأغلى النياشين تسبغها على من لا يخالجني الشك أنّه لا يستحقها. وإذ أعبر عن العرفان والامتنان نيابة عنه لأجدد التحية الموجوعة بالكلمات والمسكونة بأنين الحروف.

----------------
الباحث مثلك عن نفس الرجل

حمود بن سالم السيابي

3/8/2015

لم تنته الملحمة أيها الشيخ .. فلا زال العطاء مستمراً .. أصابعي تتجه إلى لوحة المفاتيح وتكتب: شيخي الجليل.. وأستاذي الأديب ما كتبته عنك الشيء القليل في قامتك وسيرتك.. فأنت دائماً متواضع بعلمك.. وتشرفت بردك الذي يوازي السياب ودنقل من وجهة نظري.. فأنت لا زلت موجودا في قلوب وأفكار من يعي الكلمة وسيمفونية القول والفعل .. أتمنى لك شفاءً عاجلا يا رب العالمين.. ليرد الشيخ الأستاذ قائلاً: "أحني هامتي عرفانا وامتنانا لقلمك" .. فأرد على سيل كلماته: هامتك دائماً مرفوعة.. في حب الوطن بعطائك.. شيخي الجليل... استميحك عذراً في نشر مقالك الوارد منك في مساحة إطلالتي على القراء يوم الإثنين... كما جاءت منك.. لأنه وساماً على صدر مشواري البسيط.. فيأتي رده: "أنا الذي أتشرف بأن تلملم بعثرة حروفي في مزهرية إطلالتك لتضيف لأوسمتك لي أوسمة أخرى "فأرد قائلا: تبقى شيخاً معلما أديباً متواضعاً ..رفعك الله وعافاك.

حقا تشرفت بهذه الرسالة .. وحق لي أن أضعها لوحة أزين بها مسيرتي وأعلقها على مد بصري وبصيرتي.. وأرتديها حُلة سندسية.

هلال بن سالم الزيدي

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك