الكاتب

مريم العدويَّة

شخصٌ مثلنا تماماً، لكنه يقرأ التفاصيل ويحب إعادتها مرات، يكتبُها بذائقة وكيفما يراها، يحفظها دهراً ويظل يكتبها.

للكاتب شبكة مُعقدَّة جدًّا من الاتصال، تلك التي تجعل شيئا يصادفه يُعيد لذاكرته أشياء، يحفظ الشخوص ويعنيه تماماً ما يلبسُها من أفكار بل وتصرفات.

ويستمتعُ الكاتب بإعادة كتابة الحياة بأسلوبه الخاص. وهنا يمتلكُ بكل تأكيد فرصة كبيرة ليكتبُها كما يحب أن يراها، لكنهُ يكابر الأنا فيكتبها كيفما يراها!

الكاتبُ هو من يكذب بصدق بالغ، ويصدق كذبه ويعايش الخيال حيثُ لا مدى للحياة فيه، في أفق المطلق يعربد كافراً بقيودِ المحدود في الحياة، فيضعُ للجوامد حواس وحياة، ويصبح معه للموسيقى طعم وللروائح صوت!

يتوجعُ الكاتب مرات ومرات دون أن ينبسُ ببنت شفة، وحده قلمه من يسجل عذابات العمر وهو يعيد للذاكرة طاحونة الألم، مازوخياً ربما يكون وهو يستلذُ بتوثيق الوجع.

وإنْ كان للقارئ لذَّة بسبر أغوار السطور؛ فللكاتب ضعفها مرات، كيف لا والنص الذي بين يديه وليد أفكاره وصنع يديه، وهو الذي يُقرِّر فيه ويرسم ويحدِّد. أن تخلق أنت المتعة والانبهار والدهشة لذاتك من خلال رسم صورة من العدم إلا مما ترويها من وحي دماغك فهو أمر لا شك باهر ومثير.

وكثيراً ما يصطدم الكاتب بالواقع وأتباعه الذين لا يؤمنون بالمطلق والأفق والحريات، ولا يبالون بأن يستنزفون العمر وهم رهن الواقع، معتبرين الخيال -وكل ما هو ليس بواقعي- مجرد ترف وزيف غير مجدٍ؛ ولأنهم لم يتذوقوا من قبل طعم الحروف وهي ناضجة تارة وراقصة تارة أخرى فمن البديهي أن يذهبوا إلى ما ذهبوا إليه!

وحين يضع الكاتب النص بين يديّ الآخر كرماً وحباً، فهو لا ينتظر اللذة التي يحسب القارئ أن يهبهُ إياها حين يُثني على النص أو يستمتعُ به دافعاً الكاتب للكتابة مرة أخرى؛ فقد أنهى الكاتب نصيبه من النص قبل أن يطلقهُ للآخر وأخذ منه مبتغاه كاملاً.

الكتابة "تقيؤٌ أنيق للذاكرة والروح" به تفرج عن كمِ هائل من المعلومات والقصص والشخوص، وتصبحا أخف وأقل ازدحاما لتواجها ضيق الواقع من جديد.

أن تصبح كاتباً تلك هبة وابتلاء في الآن نفسه، هبْ أنك قادرُ على إعادة تفريغ ذاكرتك اللعينة، أليس لذلك وجع وجهد، وليس من شيء أكثر إثارة للسأم والضيق من فكرة متمردة تصر على الخروج في وقت لا يملكه الكاتب، فتظل تظلل طريقه وتأن ترتجي عطفه ليفك قيدها، وإن فعل نكرت معروفه وجرت معها قوافل من أخواتها، فيصبح هو عبداً لها ومن يطيق قيود الكلمات!

والكتابة تُبقي الأثر، وتترك السجل لمن بعدنا، وهي الأقدر على التعبير عنا؛ لأنها تأتي رغماً عنا، وليس هنالك من قانون ثابت لنصنع كاتباً جيداً؛ فهي تماماً ككل الأقدار تأتي لمن له نصيب وبلا موعد، ربما تأتي لعلاج الكاتب نفسه أو لمن حوله أو للاثنين معاً.

وعلى اعتبار أنَّ الكاتب مفضوح أمره من خلال الورق، فإن للكاتب كواليس مخفيه ودهاليز يصعب الكشف عنها، وربما كتب عن وجع أصبع الآخر المتورمة بينما هو قد بُترت قدماه! هكذا هو الكاتب عاشقُ للمراوغة، كيف لا وهو يقضي جلّ يومهِ مراوغاً الكلمات حيناً والأفكار حيناً آخر.

والكاتب ممتهنُ طيلة الوقت للكتابة دون أجر إلا من متعة لا يجد أن يحيد عنها، فإن فعل لاحقتهُ وأحدثت ارتباكا في محيطه. وأجود النصوص تلك التي تخرج من القلب عِوضاً عن الذاكرة؛ لأنها الأصدق والأكثر قدرة على الوصول إلى قلوب الآخرين وملامستها ومن ثم سكب ما تحويه في أوعيتها وتلك أقصى درجات غايتها. وكلما حقق الكاتب متعة أصبح لديه هاجس لمتعة أكبر تضاهي تلك التي أمتلكها، وهكذا دواليك يصبح في ماراثون دائم بحثاً عن ما تجره الكلمات من كنوز مخفيه يجهلها إلا من سبق وتذوقها.

ربما تقرأ نصاً وتجزم أن لا نصاً يضاهيه، ويأتي عليك وقت آخر ويقعُ بين يديك نصاً آخر يضاهي الأول، هكذا هي أطباق الكُتّاب كلُ طبقِ أشهى من الآخر ولكل واحد مفضليه، والقراء ذوّاقة ومع الوقت يصبحوا ذات فراسة وحنكه.

وللكاتب مهما تصورناه في صغرنا بشعرِ منكوش وغرفة ممتلئة حتى سقفها بالأوراق، صوراً عديدة، وهو في كل الأحوال شخص يشبهنا، وكل ما في الأمر أنه وقع أسيراً للكلمات.

تعليق عبر الفيس بوك