العولمة.. مناهجًا لزيادة الفقر

رحاب أبو هوشر

"جيوب الفقر" لم تعد جيوبًا؛ فقد اتسعت مساحته (الفقر) وازدادت شراسته في البلدان الفقيرة، رغم ما يُعلن عنه من إستراتيجيات اقتصادية، وما يتم تنفيذه من برامج تشغيلية تنموية؛ من خلال مشاريع الإنتاج الصغيرة والمتوسطة، التي تزامن التبشير بها والترويج لها لحل أزمة الفقر مطلع التسعينيات، بالتزامن مع إعلان حقبة العولمة الأمريكية، وبدء مشروع خصخصة اقتصاد تلك البلدان.

تغيَّرت ملامح البلدان مع هجمة العولمة، وتغيَّرت ملامح الإنسان فيها ثقافيًّا وإنسانيًّا، وتبدَّل نمط عيشه، أفكاره ومزاجه ورغباته وطموحاته، جنبا إلى جنب مع تآكل دخله وقدراته الشرائية. تأمركت البلدان والمجتمعات، لكنَّ شعوبنا لم تنل من "الحلم الأمريكي" إلا مطاردة الأوهام ومعاينة توالي الأزمات والانهيارات! لأنَّ جوهر سؤال العولمة يظل مرتبطا بالاقتصاد، وكل التحولات الأخرى وما تنتجه من أشكال الهيمنة السياسية والثقافية والفكرية، إنما تلعب دورَ المساند للغرض الأساسي في الهيمنة الاقتصادية، وتعميق التبعية للمركز الرأسمالي العالمي، من قبل تحالف الشركات القوية الذي يقود المؤسسة السياسية الأمريكية، ويضع إستراتيجياتها تجاه العالم، وتحديدا تلك الموجَّهة لبلداننا ودول آسيا وإفريقيا الفقيرة، بما يضمن مصالحها وتحقيق أرباحها. تلك الشركات ذاتها، ومن خلال سيطرتها على القرار السياسي، أسست مجموعة من الهيئات والمؤسسات والمراكز المختصة بشؤون العالم الثالث، المسجون في التخلف والفقر بالرغم من ثرواته وموارده، لتحقيق تلك الغايات، تحت عناوين مثل: الدعم والإعانة والإغاثة والمساعدات، إلا أنَّ القروض بقيت العنوان الأبرز، وبقي صندوق النقد الدولي أشرس أداة لتغول الرأسمالية في بلداننا!

وفي ظل طغيان نظام الخصخصة، ودخول الشركات متعددة الجنسيات للأسواق المحلية، وضعف الناتج الاقتصادي وتفاقم العجز المالي للبلدان، ظهرتْ المشاريع الصغيرة والمتوسطة الممولة بقروض مؤسسات وهيئات دولية منبثقة عن صندوق النقد الدولي، وتمَّ تسويقها على أنها برامج لمكافحة الفقر، والمساعدة في خلق فرص عمل؛ حيث يتم منح الأفراد قروضا لإقامة مشاريعهم الصغيرة. هذا النوع من برامج "التمكين الاقتصادي" غزا كثيرا من البلدان الفقيرة منذ أكثر من عشرين عاما ولا يزال نافذا حتى اليوم، لكنَّ الفقر بقي على حاله، بل وتزايد بالرغم من تلك البرامج والمشاريع؛ فالدخل المادي المتحقق من مشاريع مثل: بقالة، أعمال نسيج وتطريز، تعبئة وتغليف مواد غذائية، أو إعداد وجبات طعام، يُسكّن آلام الفقر فقط ولا يمحوها، علاوة على أن معظم تلك المشاريع تفشل في الاستمرار، لظروف عديدة؛ منها: شروط الإقراض الجائرة، وعدم جدوى المشروع الاقتصادية، والسبب الأهم أن التمويل يستهدف نوعية محددة من مشاريع الأعمال الهامشية، غير الإنتاجية أو المنتجة، والمحكوم عليها سلفا بالابتلاع من قبل حيتان السوق الكبار والشركات المتعددة الجنسيات التي أتت بها العولمة. يعجز المقترض عن تطوير مشروعه، لعدم امتلاكه المال، ويبقى ملتزما بسداد قرض يتضاعف، ثم تضع المؤسسة الممولة يدها على المشروع، ليخسر كل شيء.

برامج اقتصادية بائسة لا تخدم إلا هدف النهب المنظم لموارد ومقدرات بلداننا، وارتهان مجتمعات بأكملها لماكينة الرأسمال، بالعمل على إفقارها وحرمانها من الإنتاج، فالعولمة نظام متكامل، يعمل باختراق بنى المجتمع السياسية الاجتماعية والثقافية، لإحراز التغييرالمطلوب عبر الترويض ومن ثم التدجين وصولا إلى الاستسلام.

وفي مطلع التسعينيات أيضا، كان بمقدورنا رصد مصطلحات ومفاهيم جديدة تماما طرحت للتداول، لم نألفها سابقا في خطاب المؤسسات الرسمية والأهلية أيضا؛ مثل: السلام، ومشاريع الاستدامة، وتمكين المرأة، التشبيك بين المؤسسات، والتمويل الأجنبي، والشريك الإستراتيجي...وغيرها من المصطلحات التي انطلقت من مراكز ومؤسسات ظهرت مرة واحدة، ثم نمت كالفطر في كثير من البلدان العربية، سمتها أنها مؤسسات أهلية تتلقى تمويلا خارجيا، في معظمه أمريكي؛ لدعم "السلام" مع إسرائيل، ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقضية المرأة. مؤسسات أخرى أيضا اهتمت بدعم الثقافة والفنون، بتمويل مشاريع سينمائية ومسرحية وأدبية. مؤسسات محلية تعمل وتقدم لها الأموال والتسهيلات، لتقوم بمهمة ترويج خطاب العولمة ومعادلها الأمركة، والعبث بالمجتمعات وتوجهاتها وقيمها، من خلال طرح أفكار ومعالجة هموم مجتزأة ومضللة، تهدف إلى تجميل سياسة أمريكا والغرب تجاه المنطقة، وفي الوقت ذاته تُعنى برصد مدى تجاوب الرأي العام مع تلك الطروحات. أما النتائج والمخرجات فتذهب لمراكز البحوث الإستراتيجية الغربية، مساهمة في صياغة القرار السياسي.

تعليق عبر الفيس بوك