سياحة مُبللة بالارتباك

د. سعيدة بنت خاطر الفارسي

الصيف فصلٌ جميل، بحضوره تتنوَّع الحياة ويتكامل تناغمها، وهو مَوْسم استرخاء وراحة لأفراد الأسرة، بعد دوَّامة النشاط اليومي المرتبط بالأطفال ومدارسهم والخروج للعمل من قبل الأبويين. وفي الخليج -حيث الأجواء الحارة الرطبة والحارقة أحيانا- يُصبح الاصطياف أمرًا ضروريًّا، وليس التصييف في دولنا أمرًا مستحدثا أو مرتبطا بزيادة المادة، بل هو عادة قديمة سعى لها الإنسان لتلطيف العيش؛ لهذا نجد كلمتي "المصطاف" و"المتربعا" منتشرتين في أشعار العرب القدماء.. لعل أشهرها تلك القصيدة الرائعة للصمة القشيري:

((بكت عيني اليسرى فلما زجرتهـا...

عن الجهل بعد الحلم أسبلتـا معـا

قفا ودعا نجداً ومن حـلَّ بالحمـى...

وقـلْ لنجـدٍ عندنـا أن يـودعـا

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرُبـا...

وما أحسن المصطـافَ والمتربعـا

وأذكرُ أيـامَ الحمـى ثـم أنثنـي..

على كبدي من خشيةِ أن تصدعـا)).

إذن؛ المصطاف هو المكان الذي يقصده الإنسان لقضاء وقت طيب في فصل الصيف، ويشتهر ذلك المكان عادة بلطف الهواء والزروع وتوافر الماء. أما المتربع، فهو التربع والعودة للمكان الذي يقيم فيه، أي الربع.

كانت هذه هي الحال في القديم.. أمَّا الآن، فلم يعد السفر بحثا عن المكان الأبرد صيفا فقط، بل هناك عناصر يبحث عنها السائح قبل أن يقدم على السفر؛ فهو يبحث عن مقومات السياحة في كل بلد، التي تُعتبر عناصر جذب للسياح -سواء كانت تلك السياحة داخلية في الوطن الواحد أو خارجه- وتعدُّ السياحة من مصادر الدخل المهمَّة لاقتصاد الدول؛ لذا تعتني معظمها بمقومات السياحة لرفع دخلها الوطني.

ومقومات السياحة كثيرة؛ يتمثل بعضها في العناصر الطبيعية الترفيهية من سواحل وأنهار وجبال وريف ساحر ورمال مدهشة، أو التاريخية الأثرية -وأعني بها المعالم والمغريات السياحية للبلاد- أو الدينية من مساجد وكنائس ومزارات مقدسة، أو المقومات الحديثة من معمار وملامح سياحية كالحدائق والمولات التجارية والأسواق الشعبية والمسارح والمتاحف والسينمات... فكلُّ هذه العناصر تُسهم في جذب حركة السياحة في الدول؛ الأمر الذي يجعل السياح يقبلون أو يتراجعون عن تكرار الزيارة، وقد يسهمون في عمل دعاية مجانية غير مدفوعة الثمن للمكان، سلبًا أو إيجابًا.

وتتطلَّب السياحة جهودا حكومية وفردية ترتقي بها كالخدمات والتسهيلات السياحية والفندقية، وخدمات النقل والمواصلات، والوعي المجتمعي بأهمية وجود السائح ومساعدته وتقديم كل عون له.

وقد حَبَا الله بلادنا عُمان نعمًا كثيرة تجعلها من أبرز الدول الخليجية سياحيا؛ فالموقع والآثار والطبيعة والجو عناصر جاذبة، أي أنَّ التاريخ والجغرافيا قد نحتا لوحة ربانية ما علينا -نحن عمانيين- سوى أن نضع لها بعض الرتوش التجميلية، لتصبح عمان وجهة سياحية مقصودة، بعد إزالة بعض المنغصات التي تتمثل فيما يلي، أولا: المطار؛ خاصة صالة "القادمون"، وهي المرآة الأولى؛ حيث يكتظ في تلك البقعة المكانية مئات المستقبلين، وتختلط الروائح غير الطيبة في ذلك الازدحام الذي يُعيق حتى حركة خروج القادمين، فإنْ قيل لي "كلها كم يوم -أو كم شهر- وسنتجاوز الأمر"، أقول: "للأسف أيامنا سنوات، والانطباع الأول لكل شيء هو نقطة الارتكاز". وصلت إحداهن من دولة خليجية، ولما تأخَّر من سيستقبلها، وتأخَّرت طائرة من أتيتُ لاستقبالهم، تجاذبنا أطراف الحديث، قلتُ "معذرة، المطار مزدحم"، ابتسمتْ قائلة: "أول ما خرجت، اعتقدت أني نزلتُ في المكان الخطأ، وتأكد عندي هذا الإحساس عندما تأخَّر من سيستقبلني، لكن، الحمد لله وجودك طمأنني أنني في مسقط". كلام عادي، لكنه يترك شرخا في الشرايين... طال انتظارنا، ورنَّ هاتف الفتاة: "الرجاء اخرجي، لا يوجد مواقف". خرجتُ معها وسط موج من البشر والروائح وقفنا معًا، يعتذر الشاب لضيفته: "لا يوجد مكان لأوقف به سيارتي، صار لي أكثر من نصف ساعة أدور بحثا عن مكان".

ثانيا: المواصلات، تعدُّ المواصلات لدينا نادرة؛ فهي للسائح لا تعني سوى سيارات الأجرة، وتلك القابعة أمام الفنادق ينهشها الغلاء -وفقا لمصلحة الفندق- فإنْ خرج السائح للشارع وقع في لعبة الحظ والنصيب، إمَّا أن يقع في يد أمينة تعي أن السياحة تعني "سُمعة بلد"، أو في يد نصَّاب يُريد أن يقتنص الفرصة؛ أحدهم أوصل السائح الأجنبي من أول مطرح لسوق مطرح بخمسة ريالات، وكان يتحدث مفاخرا: "يغيب ولد الحمرا" إشارة لكونه أوروبيًّا.

ثالثا: المطاعم، تجوَّلتُ بضيوفي ليلا بعد وجبة غداء دسمة في المنزل، وبعد جولة جميلة حول الشواطئ عزمتهم على مطعم لتناول العشاء، لكنهم رفضوا، والجميع أصر على تناول وجبة خفيفة. وفي جولة سريعة حول المطاعم بمنطقة الخوير، لفت نظرهم أنَّ معظم المطاعم تركية؛ فهذا التركي القديم وهذا التركي الجديد وهذا التركي الشرقي وذاك التركي الغربي وهذا التركي للمأكولات وهذا التركي الـ... قال أحدهم: "ما شاء الله، كل المطاعم عندكم تركية". قال الآخر: "جميل الأكل التركي، لذيذ ورائع، أريد ساندوتش شاورما". ولأنني جرَّبت ساندوتشات الشاورما في معظم المطاعم بحثا عن الطعم التركي الذي تذوَّقته مرارا في إسطنبول...وغيرها من المدن التركية، فلم أجده هنا، حاولتُ أن أُبعدهم عن هذا، وأطلب مشويات للجميع، لكنهم أصروا، وكان ما قدَّر الله.. أعرفُ أنهم تفاجأوا بالطعم، فلا تركي ولا شاورما سوى كثير من الدهن والميونيز والبطاطس والملفوف وعصب اللحم.. ذوقيًّا أكلوا وحمدوا الله. وبعد سفر ضيوفي، أخذتُ جولة على المطاعم التركية أطلب أكلات تركية معينة.. السؤال: "عندك بيتي كباب؟"، لا، "دشتي كفته؟"، لا. مطعم ثان: "عندك المانتي؟"، لا، "أتل أكمك؟"، لا. ثالث: "عندك تانتوني كباب، أورفه كباب، مانامان؟"، لا. رابع: "عندك حلوى اللوز، المبرومة، بوظه تركي"، لا، "ولما هو لا، لماذا اسمك مطعم تركي؟" يهز كتفه، لأنه عربي ليس تركيًّا، الثاني يهز رأسه لأنه هندي ليس تركيًّا، الثالث يرفع حاجبه لأنه ليس تركيًّا، ولم يسمع بهذه الأسماء. ولما كان الشيف ليس تركيًّا، والذي يقدم ليس تركيًّا، والمشرف على المطعم ليس تركيًّا، والطعام ليس تركيًّا، فلماذا الإصرار على كتابة مطعم تركي؟! هناك على مرمى حجر واحد أقصد في الإمارات لو كتب "تركي" فهو تركي، "إيراني" فهو إيراني، "هندي" يعني "هندي"، "شامي" يعني "شامي"، "يمني" يعني "يمني". أما في الكويت، فهناك التزام وتقديس للاسم، فما عليك سوى أن تطلب الإيراني ليأتيك حسب ما تريد إيرانيًّا دون أي تجاوزات للطعم أو للطاهي أو للمقدم. لو طلبتْ الأكل المصري جاءك مصريًّا بنكهة مصرية، ليست هندية. إذن؛ لماذا عندنا يتم "التمحُّك" بالاسم فقط؟ وتبحث عن التركي في الموضوع، فلا تجد سوى اسم المحل. ترى من المسؤول عن هذا التلاعب بالعقول؟ هل هي البلدية؟ هل التجارة والصناعة؟ هل السياحة؟ أم اللامبالاة والجهل المتفشي لدى هؤلاء وهؤلاء؟ وأين مُفتشو هذه المطاعم؟ قيل لي: "هم يحتاجون إلى مَنْ يُفتش عليهم، خاصة بعد أن انتشرت سُمعة (ضع لي أكل هنا، وبارسل للأولاد)"!! بعد هذا، كيف سيفتِّش المفتش إلا بتوقيع ممتاز وابتسامة؛ فهو ينطبق عليه المثل القائل "أطعم الفم تستحي العين".

تعليق عبر الفيس بوك