الكاميرا والعطشى للاعتراف بهم

رحاب أبو هوشر

يثق الناس بصورهم في عيون الآخرين، وقلما يثقون بعيونهم وجودة صورها، والمرايا ما هي إلا مسودات أولية بسيطة للصور النهائية الملتقطة، فلا يحفز أغلبيتهم للعيش وفعل ما يفعلون، إلا عدسة هذه الكاميرا الهائلة التي لا تتوقف عن التقاط الصور. إنّهم يريدون صورا مضبوطة وفق مواصفاتها، بألوانها ومؤثراتها.

نقف أمام المرايا، نلقي نظرة على أنفسنا قبل الخروج، ندرس فيها أفضل مقترحات عيونهم لصورة مرضية. يطمئننا الانعكاس في المرايا على انسجام وحسن الشكل والهندام، ونتفقد تعابير الوجه ونظرات العين، استعدادا لالتقاط الكاميرا للصورة النهائية. المرايا ذاتها تسكن اللاوعي دائما، لتفحص كيفية تعبيرنا عن أنفسنا، سلوكنا وحديثنا، وفق إدراكنا لسطوة حضور الكاميرات المبثوثة بكثافة أينما اتجهنا. إننا لا نرى أنفسنا بعيوننا، بل نستعير عيونهم. نجهد لكي نتواءم مع ما تود هذه العيون أن تراه فينا، أو ما نتوقعه كذلك، ونبذل جهدا مضاعفا لكي نظهر من ملامحنا ما يليق بصورة في "ألبوم" عام، والجهد الأكبر يتركز في إخفاء العيوب أو تجميل الندوب، حتى لا نُعكر هناءة الصورة ونقاءها المفترض، فنحن على علم بما يفترض أن نكون عليه في مواجهة الكاميرا، حتى نحظى بقبولها وإعجابها، ونحقق الشعور بالرضى، ولا نُطرد خارج كادر التصوير. فكيف يمكن للمشدودين إلى بؤرة الكاميرا أن يكونوا إن ضلوا عن ضوئها، وكيف يمكنهم أن يعرّفوا أنفسهم بعيدا عنها؟ وما قيمة أفعالهم إن انزووا بعيدا عن عدستها؟!

في روايته "الخلود"، يتناول الروائي التشيكي/ الفرنسي "ميلان كونديرا" هيمنة التقنية الحديثة واستهلاك العولمة على المجتمع الأوروبي، ويرى في علاقة نظام المجتمع مع الفرد، كاميرا تثير عدساتها و"فلاشاتها" شهوة الناس للصور، وفي نفس الوقت تجعل منهم مستلبين لها، غير قادرين على الفكاك من نفوذها، وغير راغبين بذلك أيضًا. "كونديرا" كتب روايته أواخر التسعينات، قبل أن ينفتح جحيم "الكاميرا" الكونية عبر الشبكة العنكبوتية، ويصبح الإنسان محض "ألبومات" من الصور، ولتتحول فلسفة الصورة من كونها سطر ذاكرة، ومحاولة إمساك بزمن سائل، عبر تجميده وحفظه في لحظة/ لقطة، إلى ترميز بليغ عالي الكثافة لانسحاق الإنسان وتشيؤه، وتخليه عن فرديته وخصوصيته، وفي حالات أخرى لفقدانه إنسانيته.

قضت تكنولوجيا الكاميرا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي على تقاليد العيون-الكاميرا، وحلت مكانها. تخلص الناس من المرايا، ولم تعد لديهم حاجة لمسودة صورة، كما دخلت مضامين جديدة على مفهومها ودورها، ولم تعد تقتصر على انتزاع إعجاب العيون، بعد أن أصبحت الصور التي يلتقطها الناس لأنفسهم ملفاً يومياً يرصد تفاصيلهم، ويمكن من خلاله معاينة وتحليل الشخصية، ورصد حالتها الصحية الجسدية والنفسية، وتشخيص مدى عافيتها وتوازنها، أو ما تنبئ عنه تلك الصور من أمراض واضطرابات نفسية واجتماعية.

باتت الصور الرقمية بحد ذاتها هاجسًا، مدللة على هاجس الآخرين، ذلك الكم الكبير من العيون على مواقع التواصل ممن سيشاهدونها، أما فورية وسهولة معرفة وقعها في تلك العيون، فقد أثار ما كان كامنا عند كثيرين، فأخذوا يلتقطون لأنفسهم وعائلاتهم الصورة تلو الأخرى، مهما كانت الحالات والظروف سيئة أو غير مناسبة، أو كان الحدث تافهًا بلا معنى، وفي أي زمان ومكان. تخطوا مفهوم مشاركة اللحظات والمناسبات الجميلة والاستثنائية مع الآخرين، واجترحوا مفاهيمهم الخاصة، في التقاط الصور لتفاصيل حميمة خاصة، وأخرى محرجة لا تثير إلا الشفقة والسخرية. ما الذي يشغل بال من يلتقط الصور ليده أو قدمه المكسورة، ويعرضها للجمهور؟ ماذا يريد منّا، ذلك الذي يوافينا بصور يومية له، وهو ممدد على سرير أحد المستشفيات، لإجراء عملية جراحية؟ أو تلك التي تلتقط الصور لنفسها مع مريض في العائلة، مع الطلب من "الجمهور" بالدعاء له بالشفاء؟ وماذا يقول لنا من يلتقطون الصور لسياراتهم وقططهم وكلابهم، وأولئك المولعين بالتقاط الصور لما يأكلون ويشربون ويلبسون؟

أصبحت الأمثولة التقليدية للعائلة السعيدة المبتسمة للكاميرا، غير صالحة لقياس حاجة الناس لقبول الآخر وإعجابه، أمام خواء إنساني لم يصمد طويلا، حتى سال أمام استدراج الافتراض وأوهام كاميرته الكونية، فانكشف ليفضح حالة عميقة من ضياع الذات وفقدان الثقة بها، مع عطش لاعتراف الآخرين. أصحاب الصور السالف ذكرهم يستعرضون، لكنه استعراض مرضي. يحاولون إثارة الانتباه، وتوهم الشعور بالتفوق والزهو أمام العيون الكثيرة. إنهم يمارسون نوعاً من الاستجداء العاطفي، في حرصهم على نشر صور، لا تخص أو تهم جمهورا عاما، وكانوا سيدركون أنها غير لائقة لو كانوا أكثر توازناً.

أما من يصورون أقاربهم المحتضرين، وذلك الذي ماتت أمه واقتنص الفرصة لالتقاط صورة له مع جثمانها ونشرها فورًا على فيسبوك لتلقي العزاء، فهذا درك بلغه مختلون نفسيا وعقليا، فقدوا إنسانيتهم تماما، ويشكلون مشاريع مجرمين، وما كنّا لنصدق أو ندرك حجمهم بيننا إلا بفضل الكاميرا الرقمية.

تعليق عبر الفيس بوك