التيار الوطني الديمقراطي البحريني: أزمة بنيويَّة (2-2)

عبيدلي العبيدلي

تأسيسًا على تلك المنطلقات الخمس، إذا ما حاول أي مراقب سياسي أن يقيِّم أداء التيار الوطني الديمقراطي منذ خروج البحرين من مرحلة "قانون أمن الدولة" سيئ الصيت، إلى مرحلة الانفتاح التي وفَّرتها أجواء الميثاق الوطني، سيكتشف أنَّ ذلك الأداء لم يرق إلى المستوى الذي كانت تتطلع إليه نسبة عالية ممن وضعوا ثقتهم في ذلك التيار، وتوخوا أن يكون الحاضنة التي تنضوي تحت عباءتها مختلف ألوان طيفه، سواءً كانت تلك الألوان تنظيمات متماسكة، أو أفرادا متناثرين.

ويقعُ في خطأ جسيم من يحاول أن يرجع هذا القصور -كي لا نقول الفشل- في وصول هذا التيار إلى ذلك المستوى، إلى أسباب ثانوية مبعثرة غير قادرة على تشخيص السبب الإستراتيجي الرئيس الذي أوصل الأمور إلى ما آلت إليه اليوم. يلجأ أصحاب مدرسة الأسباب الثانوية المبعثرة إلى إبراز عناصر ثانوية من بين الأهم فيها الظواهر التالية:

- مباغتة المشروع الإصلاحي غير المتوقعة للتيار، في لحظة تاريخية لم يكن التيار حينها متهيئا لمثل هذا التحول النوعي في سلوك السلطة، فلم يكن وقت الانتقال، وبطبيعة الحال سرعته، كافيين كي ينجح التيار في إعادة ترتيب أوراقه، ومعها صفوفه ليصبح مستعدا للمرحلة المقبلة. فالانتقال من متطلبات العمل السري المطلق ومقاييسه وطقوسه، إلى العمل العلني بما يفتحه من آفاق جديدة أمام كوادر التيار وقياداته، أشاع شيئا من الإرباك في سلوك التيار وسياساته.

- صعود الإسلام السياسي إلى واجهة الساحة السياسية، بفضل التراكمات التي ولدها التحالف المعلن والمبطن بين السلطة والإسلام السياسي؛ سواء بشكل مباشر في البحرين، أو كمحصلة لتحالفات مشابهة على الصعيد الإقليمي الضيق نسبيا، أو على العالم الأكثر شمولية. ربما يبدو هذا السبب هو الأكثر حضورا في المشهد السياسي، لكنَّ حقيقة الأمر تجعل من هذا السبب -رغم أهميته- هامشيًّا عندما يقارن بالسبب الأساس الأكثر جوهرية وتأثيرا.

- حالة الثراء الوهمي الذي ولَّدته تفريخات الاقتصاد الريعي بفضل الفوائض النفطية التي شوهت قيم المجتمع، بما فيها تلك السياسية، وخلقت قوى اجتماعية طفيلية من طراز مختلف عن تلك المنبثقة عن الاقتصاد الريعي التقليدي. هذه القوى شكلت نسبة عالية على المستوى الاجتماعي، واختطفت حقوقا مهمة نسبيا على الصعيد السياسي، بعد أن تمكنت من اثبات نفسها في المجال الاقتصادي. هذه القوى، وانطلاقا من مصالحها الطفيلية، جففت المنابع التي كان يغرف منها التيار الوطني للتوسع تنظيميا.

- اختراق السلطة لتنظيمات التيار الوطني الديمقراطي، بشكل مباشر أو غير مباشر. والأخطر هو غير المباشر، عندما نجحت السلطة في منازلة التيار في أفضل ساحاته وهي منظمات المجتمع المدني، ولم ينحصر الأمر، كما يتوهم البعض، في "الاتحاد الوطني لطلاب البحرين"، بل تجاوز ذلك كي يشمل منظمات مجتمع مدني مهمة مثل "جمعية المهندسين البحرينية"، و"جمعية الأطباء"، بل وحتى "جمعية المحامين". هذا الاختراق الإستراتيجي جرد التيار من المعين البشري الذي ينهل منه على المستويين الاجتماعي والسياسي.

كل هذه الأسباب -وربما أخرى غيرها- لا شك ساهمت في إرباك خطوات التيار في مراحل معينة، وتعثرها في مراحل أخرى، لكنها جميعا لا تضع أصبعها على الجرح، كي تكتشف أن التيار يعاني من أزمة بنيوية تكمن في صلب منطلقاته، وتمظهرت في الحقائق التالية:

- على المستوى الأيديولوجي، لم يتمكن التيار من تطعيم خلفيته الأيديولوجية اليسارية، بكل ألوان أطياف الفكر اليساري من تقليدي وجديد، بما استجد من أيديولوجيات، والانتقال إلى الفضاء الفكري الجديد بشكل انسيابي، بعيدا عن أية تشنجات فكرية، إلى ما يمكن أن يساعده على التفاعل الإيجابي المبدع مع الحالة الجديدة، بما يسمح له تأكيد حضوره السياسي المؤثر القادر على موضعته في مواقع قيادية. كان ذلك سيبيح له تبوأ مراكز الصدارة التي تتيح له تأكيد حضوره، ومن ثم انتزاع مكانته التي تمكنه الانتشار فوق ساحة العمل السياسي البحريني على الصعيدين الافقي العام، والعمودي المتخصص.

- على المستوى السياسي، لم يوفق التيار في طرح برنامج وطني عام يوحد صفوفه، ومن ثم يستقطب من خلاله جميع القوى الاجتماعية، والمكونات الاقتصادية في جبهة وطنية عريضة تحقق مزيد من المكاسب لصالح المواطن؛ من خلال الاستفادة من الكثير من الهوامش والفرص التي تبناها ميثاق العمل الوطني. أسوأ ما في الأمر هو التشظي السياسي الذي بات يعاني منه الشارع السياسي البحريني من جانب، وصورة التيار التي تكرست في نظر المواطن العادي، الذي بات يضع التيار في إطار التبعية لقوى الإسلام السياسي، من جانب آخر. وبغض النظر عن صحة هذا التصور، ودون الدخول في مسبباته؛ فالواقع الحالي يكرس هذه الصورة، ويقتضي جهدا مضنيا لتغييرها، قبل إزالتها من ذهنية ذلك المواطن.

- على المستوى التنظيمي، تبدو الصورة أكثر سوادا وتشاؤما، فبدلا من أن يتيح العمل السياسي العلني الفرصة أمام التيار كي يقلص من عناصر الاختلاف والتنافس التي كانت تمزقه في فترات العمل السري، وجدنا شرخ الخلافات يتسع ويزداد عمقا. فلم تتوحَّد القوى الرئيسة للتيار، بل انتعشت سوسة الانقسامات داخل جسد كل تنظيم على حدة. وقد نجح الإسلام السياسي في تجيير هذه الخلافات لصالحه من جانب، ولم تكن السلطة بعيدة عن الاستفادة من تلك التشظيات التي مزقت نسيج أعضاء تنظيمات التيار.

- على مستوى العمل المدني، تراجع حضور التيار في العديد منها، حتى البريق الذي كانت تنشره أنشطة "الاتحاد الوطني لطلاب البحرين"، أصبحت رواية تاريخية يتباهى التيار بها، عند الحديث عن نجاحاته السابقة، كي يضمد بها جراحاته المعاصرة.

... كلُّ هذه المظاهر تؤكد بما لا يترك مجالا للشك أنَّ التيار أصبح اليوم يعاني من أزمة بنيوية، بات مطلوبا المسارعة إلى حلها، بشكل جذري ربما يصل إلى مستوى العملية الجراحية التي تستأصل سرطان الأزمة، ولا تكتفي بالمهدئات. وفوق هذا وذاك لا تقف عند حدود الأعراض، بل تغوص في أعماق جذور الأسباب.

وفي نهاية المطاف، هذه دعوة صادقة تنطلق من أعماق القلب معبرة عن حرص على التيار وسلامته، وليس نظرة شامتة تستمرئ هذا الواقع ولا تبالي بما ينتظره، تأمل أن يتأنى كوادر التيار وقياداته قبل إصدار أحكامهم السريعة المنفعلة سلبيا بما جاء فيها، لكيلا ينتفع العدو، قبل أن ينضر الصديق.

تعليق عبر الفيس بوك