إسرائيل.. إلى أَيْن؟!

زاهر المحروقي

رَغْم كلِّ الانتهاكات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، والتي كان آخرها يوم الأحد الماضي، عندما اقتحمَ إسرائيليون المسجد -وعلى رأسهم أوري أرئيل وزير الزراعة- بمساعدة الشرطة؛ إلا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ إسرائيل لن تزول؛ فهي لم تستمر في الحياة إلا بتخاذل العرب وضعفهم وتشتتهم وتفرقهم، وقد كان الأستاذ هيكل موفقاً في إيجازه، عندما قال -في مقابلة نُشرت في جريدة "السفير" اللبنانية يوم 21/7/2015: "إنّ المرحلة التي يبدأ فيها العد التنازلي لإسرائيل؛ هي عندما يكون هناك عالم عربي قوي. أما الآن، فإسرائيل مهيمنة على المنطقة كلها"، ومن أسباب ذلك مثلاً: أنْ يتم نسيان الأقصى؛ فيتم توجيه "الحزم" إلى شعب شقيق أعزل دون سبب وجيه.

لقد جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة 2014، لتثبت أنَّ الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر إنّما هي مقولة خاطئة، لأنّ هذا الجيش واجه صعوبات شديدة في مواجهته للمقاومة الفلسطينية، كما واجه قبل ذلك الصعوبات نفسها من حزب الله. وقد يقول قائل إنَّ هزيمة إسرائيل ليست بتلك السهولة لأنها تملك ترسانة كبيرة من الأسلحة منها النووية، مع مساندة أمريكية قوية لها؛ وهذا صحيح إلا أن الواقع في الأرض أثبت غير ذلك، وهناك بعض الدراسات أشارت إلى أن قضية السلاح النووي الإسرائيلي إنما فيها من المبالغات ما فيها، حتى يعجز العرب عن مقاتلة إسرائيل، ثم هناك حقيقة أخرى هي أن إسرائيل لن تلجأ إلى استخدام السلاح النووي إلا كحَل أخير يكون فيه دمارها لأن مساحتها ضيقة.

... إنَّ الجوابَ عن سؤال "إلى أين تذهب إسرائيل؟"، هو ببساطة: إلى الزوال؛ فلم يعط إسرائيل الفرصة للبقاء إلا الخلافات العربية-العربية، وانشغال الأمة بحروبها الخاصة، ويكفي إسرائيل فخراً أن الجيش العراقي دُمر ولم تطلق هي رصاصة واحدة وكذلك الجيش السوري، ودُمرت ليبيا وتم تقسيم السودان، وتم إشغال مصر بقضاياها الداخلية، وكل ذلك دون أن تطلق إسرائيل رصاصة واحدة، لأن إسرائيل تعرف أنها لا تستطيع أن تستمر في الحروب مدى الحياة، فلجأ المخططون فيها إلى أنواع أخرى من الحروب التي تولاها الآخرون عنها بالوكالة؛ سواء كان هؤلاء الآخرون أمريكا أو العرب، أو حركات مشبوهة لا تخدم إلا المصلحة الإسرائيلية مثل "داعش". أما بعض دول الخليج، فقد عاشت في "أوهام السلام"، وهي التي لم يُعرف عنها يوماً الاهتمام بالقضايا القومية، لدرجة أن تقف مع إسرائيل في حروبها ضد حركات المقاومة -إن كانت حماس أو الجهاد أو حزب الله- وبحجج واهية كاعتبار حزب الله "حزباً رافضياً" أو أن حماس "منظمة إخوانية".

... إنَّ الغريبَ والمثير هو أن فكرة حتمية زوال إسرائيل هي فكرة متجذرة فى الوجدان الصهيوني منذ اللحظات الأولى لإنشائها؛ فمن خلال الوثائق التي نشرت عن "ديفيد بن جوريون"، فإنه قال: "إن بقاء إسرائيل لن يستمر إلا إذا امتلكت أسلحة ردع نووية، وإن إسرائيل إذا هُزمت مرة من قبل العرب فإن ذلك سيكون نهايتها"، وهو صاحب سياسة استغلال القوميات والإثنيات والطوائف في الوطن العربي لصالح الكيان الصهيوني، كما أن الكثير من الصهاينة أدركوا أن المشروع الصهيوني مشروع مستحيل، وأن الحلم الصهيوني سيتحول إلى كابوس، وحتى بعد أن حقق المستوطنون "النصر" على الجيوش العربية تصاعد هاجس النهاية، وهو الذي يتكرر مع كل هزيمة يلقاها الصهاينة، ويراها بعض العرب هزيمة للمقاومة أو مغامرة غير محسوبة، وربما كانت ضمن هذه التوقعات ما قاله الكاتب الإسرائيلي يارون لندن، في حديث نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية العام الماضي: "إنَّ أمام إسرائيل فرصة 50% من الاستمرارية".

وبعد حرب إسرائيل على حزب الله عام 2006، نشر الراحل عبدالوهاب المسيري بحثاً عن هاجس نهاية إسرائيل عند بعض الصهاينة، رصد فيه العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات السياسية والأدبية التي تتناول حتمية زوال إسرائيل، ذكر فيه أنه أثناء الحرب وبينما كانت الطائرات الإسرائيلية تدك المدن والقرى والبنية التحتية اللبنانية وتُسيل دم المدنيين، نشرت صحيفة معاريف مقالاً كتبه الصحفي يونتان شيم بعنوان "أسست تل أبيب في العام 1909، وفى العام 2009 ستصبح أنقاضاً"، جاء فيه "أنه قبل مائة عام أقاموا أولى المدن العبرية، وبعد مائة عام من العزلة قُضي أمرها". وتساءل المسيري: ما الذي يدعو مثل هذا الكاتب للحديث عن نهاية إسرائيل، في وقت بلغت فيه القوة العسكرية الإسرائيلية ذروتها، وتجاوز الدعم الأمريكي، السياسي والمالي والعسكري لها، كل الحدود؟ كيف يمكن تفسير هذا الموقف؟ ويقول إن النهاية ماثلة دائما في عقولهم؛ فالضحايا الذين طُردوا من ديارهم تحولوا هم وأبناؤهم إلى فدائيين يقرعون الأبواب يطالبون بالأرض التى سلبت منهم. ويذكر المسيري موقفاً له مغزاه؛ إذ يقول إنَّه في اجتماع مغلق في مركز الدراسات السياسة والإستراتيجية في الأهرام، أخبرهم الجنرال الفرنسي أندريه بوفر -الذي قاد القوات الفرنسية في العدوان الثلاثي على مصر- بواقعة غريبة، كان هو شاهدها الوحيد؛ فقد ذهب لزيارة إسحق رابين في منتصف يونيو 1967، أي بعد انتهاء الحرب بعدة أيام، وبينما كانا يُحلقان في سماء سيناء والقواتُ الإسرائيلية المنتصرة فى طريق عودتها إلى إسرائيل، بعد أن أنجزت مهمتها، قام الجنرال بوفر بتهنئة رابين على نصره العسكري؛ ففوجئ به يقول: "ولكن ماذا سيتبقى من كل هذا؟"، ففي الذروة أدرك الجنرال المنتصر حتمية النهاية.

... إنَّ حتمية زوال إسرائيل لم تلازم القادة العسكريين فقط؛ بل إنَّ الأدب الصهيوني تناول هذا الموضوع من خلال الروايات والقصص والأشعار؛ ففي قصة "في مواجهة الغابة" التي كتبها الروائي الإسرائيلي "أبراهام يهوشوا" في النصف الأول من الستينيات، والتي تركز على الحالة النفسية لطالب إسرائيلي عُين حارساً لغابةٍ غرسها الصندوق القومي اليهودي في موقع قرية عربية أزالها الصهاينة، يقابل هذا الحارس عربياً عجوزاً أبكم من أهل القرية يقوم هو وابنته برعاية الغابة، وتنشأ علاقة حب وكره بين العربي والإسرائيلي؛ فالإسرائيلي يخشى انتقام العربي الذي أصيب بعاهته أثناء عملية التطهير العرقي التي قام بها الصهاينة عام 1948، ولكن وعلى الرغم من هذا يجد نفسه منجذباً إلى العجوز العربي، بل يكتشف أنه يحاول بلا وعي، مساعدته في إشعال النار في الغابة؛ وفي النهاية عندما ينجح العربي في أن يُضرم النار في الغابة، يتخلص الحارس من كل مشاعره المكبوتة، ويشعر براحة غريبة بعد احتراق الغابة، أي بعد نهاية إسرائيل!

أما إيتان هابر؛ فقد كتب مقالاً بعنوان "ليلة سعيدة أيها اليأس.. والكآبةُ تكتنف إسرائيل" (يديعوت أحرونوت 11 نوفمبر 2001)، أشار فيه إلى أن الجيش الأمريكي كان مسلحاً بأحدث المعدات العسكرية، ومع هذا يتذكر الجميع صورة المروحيات الأمريكية وهي تحوم فوق مقر السفارة في سايجون بفيتنام، محاولة إنقاذ الأمريكيين وعملائهم المحليين فى ظل حالة من الهلع والخوف حتى الموت. إن الطائرة المروحية هى رمز الهزيمة والاستسلام والهروب الجبان في الوقت المناسب. ثم يستمر الكاتب نفسه فى تفصيل الموقف: "إن جيش الحفاة في فيتنام الشمالية قد هزم المسلحين بأحدث الوسائل القتالية. ويكمن السر في أن الروح هي التى دفعت المقاتلين وقادتهم إلى الانتصار. الروح تعني المعنويات والتصميم والوعي بعدالة النهج والإحساس بعدم وجود خيار آخر. وهو ما تفتقده إسرائيل التى يكتنفها اليأس"، والذي لم يقله الكاتب هو أن الفلسطينيين هم من يملكون تلك الروح، وهم الذين يؤمنون بعدالة قضيتهم.

لقد تجدَّد هاجسُ نهاية إسرائيل مرة أخرى مع الحرب الصهيونية على غزة بعد الصمود الفلسطيني الرائع أمام الهمجية الإسرائيلية، كما يتجدد في كل أزمة؛ فالهجمةُ الصهيونية لم تحقق شيئاً؛ لأنَّ المقاومة مستمرة، والشعب الفلسطيني شعب حي أراد الحياة، وعرف أنَّ عليه أنْ يعتمد على نفسه، وأنَّ "سلام الشجعان"، إنما هو وهمٌ واستسلام، والإسرائيليون يعرفون تماما أن العرب يعيشون اللحظة، ولا قِبل لهم بخطط مستقبلية ولا نية لديهم لمواجهة إسرائيل، ويعلمون تماماً أن كل حركة مقاومة تقوم ضد إسرائيل ستواجَه عربياً قبل أن تواجهها إسرائيل، لذا هم ينشرون علنا مخاوفهم وهواجسهم عن حتمية نهاية إسرائيل؛ فهم مُطمئنون أنَّ العرب لن يتحركوا تجاه تلك المخاوف، ولن تعطيهم الفرصة لإعداد الخطط، وإنما اعتمادهم سيكون على الدعاء فقط، والدعاءُ في أحيان كثيرة يكون ضعفاً، وما قاله معالي يوسف بن علوي حقيقة، عندما قال "مهما حاولت إسرائيل وعملت من إجراءات لخلق واقع جديد؛ فهذا لن يشعرها بالاستقرار".

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك