مجرَّد سائح...!

 

هلال الزَّيدي

على مقاعد الدراسة، وبين جدران الصف، ثمَّة فكر يتَّشح الصمتَ؛ فتهيج لديه مجسَّات استقبال المعلومة لقطاع بات من أهم القطاعات في تحقيق تنمية إنسانية واقتصادية؛ فتراه يتقمَّص التركيزَ ليكون دليلا سياحيا في سبر العلوم السياحية؛ فتصعد لديه مؤشرات الفهم من أجل معرفة المزيد عن الطبيعة البِكْر التي لم تجد الاستثمار الأمثل لها، ولكن لا يلبث ذلك الصعود إلا أن يهوي عندما يتصادم مع الواقع الذي يُسيِّر وينظِّم القطاع السياحي؛ فالعلوم النظرية قاتمة إنْ لم تجد تطبيقا فعليًّا لها، لكنه حتى يَكْسَر رتابة المحاضرة التي يشطح صاحبها ليغرس دافع حُبِّ العمل في هذا القطاع، تجده يُغلق عينيه ليُبحر مع حلمه على امتداد السواحل الجميلة، ويتسلق الجبال ليبني في قممها نظرة اقتصادية، ويهيم على وجهه بين تموجات وطقوس تلك الرمال الذهبية ليكتشف مدى قسوتها.. ويقتفي الأثر الذي تبقّى من عوامل التعرية، ويتسوَّر تاريخ القلاع والحصون التي خبَّأت الكثيرَ من الأسرار على مرِّ التاريخ، ويعود من هيمانه ليصل إلى حداثة السياحة في تلك النُّزل التي هيَّأت للقادمين من خارج الحدود ليتعرفوا على هذه الثقافة الموغلة في القدم.

هي لحظات شتت فكر المتعلم؛ ليصحو من حلمه على ضربة المحاضر على طاولة الصف؛ مردِّدا: "الانتباه للشرح جزءٌ من الفهم"، ومن لا يريد أن يفهم سيكون بعيدا عن أجوائنا.. صاحبنا هذا يبتسم ويقول لصاحبه: أيُّ فهم وشرح هذا الذي ينافي الواقع، ما هذا إلا ثُغاء النعاج في ساعة عودتها من مرعاها، وإلا كيف لمؤسسة أكاديمية تحمل اسم "عُمان" تسير بدون هوية وخصوصية؟ فمتى يقتنع صنَّاع القرار بأنَّ هذا الصرح يجب أن يوكل إلى من يتألم لوضع سياحتنا؟ وتاريخ هذه المؤسسة حالك مظلم.. كونه لم يستطع أن يقدم لسوق العمل قناعة بمخرجات هذه الكلية؛ حيث تنازع عليه الكثيرون ممن أرادوا أن يجعلوه محطة واستراحة بعد عناء العمل؛ فهم مُتقاعدون بعيدون عن الواقع وعن وجع السياحة؛ فكيف لهم أن يديروا هذه المؤسسة لتكون رافدا علميا متخصصا في تغير الخارطة السياحية؟!

يخرجُ من قاعة الدرس يجر جسده، يسمع همسات الطلاب الذين أتوا كتحصيل حاصل، وليس حبًّا في دراسة علوم السياحة؛ كون الأرضية هشة لا تؤسس على حب التخصص، وإنما نيل شهادة يحقق من وراءها وظيفة بعيدة كل البعد عن السياحة.. وهنا، ينتهي حلم مختلط بالواقع لصاحبنا الذي سينساق بفكرة مع القطيع.

مُنذ افتتاح كلية عُمان للسياحة -وحتى يومنا هذا- لم تستطع أن توجد هوية لها في إيجاد جيل من الشباب ليكونوا واجهة حضارية تتناسب مع مستجدات العصر؛ وذلك لضعف المناهج الدراسية والرؤى والخطط الإستراتيجية التي تجعل منها مؤسسة أكاديمية تؤسس الشباب على الانخراط في العمل السياحي، ويكون قطاعا مؤثرا في التنمية الشاملة للبلاد، لقد تعاقبتْ على الكلية إدارات كثيرة لم تسهم في تقدُّم المؤسسة بقدر أنها أرجعتها للخلف وغيَّرت ما تم بناؤه منذ تأسيسها؛ فبعد خضوعها لإشراف القوى العاملة، تنتقل إلى إشراف التعليم العالي دون أن يكون لها صَوْت واضح أو رسالة مهنية أو حتى قدرة على استقطاب مخرجات التعليم العام؛ لأنها لا تزال تعيش فترة التجارب مع تعاقب الإدارات عليها.

... إنَّ المتتبِّع لمشهد صناعة السياحة في السلطنة يرى أنَّ النظرة المجتمعية تسيطر على تخوف الشباب من الإقبال على العلوم السياحية؛ وذلك لخوفهم من نظرة المجتمع التي عشَّشت في أدمغة الكثيرين بأنها عمل وضيع، إلى جانب الذراع الخجول الذي تفتحه المؤسسات السياحية في استقطاب تلك المخرجات من حيث قلة وضعف الحافز؛ لذلك لا توجد ظروف مُواتية لمتطلبات القطاع من أجل حثِّ الشباب على العمل في هذا القطاع؛ فالأسس منعدمة في مسألة تحبيب الشباب العماني في تلقي العلوم السياحية؛ لأنَّ المؤسسات الأكاديمية ضعيفة ومبنية على دروس نظرية وسوق عمل غير مشجع لانخراط تلك القدرات، هذا إلى جانب وجود إدارات لا تفقه في السياحة وسيطرة الأجنبي على اتخاذ القرار من وجهة نظره هو؛ وذلك حتى يحافظ على مكانته ووضعه الإداري والأكاديمي.

... إنَّ المرحلة الحالية -ومع متغيرات الحياة، وتنامي التركيبة السكانية، وضعف اقتصاديات الدول المعتمدة على الذهب الأسود المتذبذب- تجعلنا بحاجة إلى بناء قطاع سياحي يساهم في سد ثغرة الاحتياجات وتنويع الاقتصادي الوطني بما يخدم التوجهات العامة؛ لذا فقد بات من الضروري أن نقيّم تلك المؤسسات من أجل إيجاد جيل واع بمقدرات القطاع السياحي وقدرته على المنافسة في ظل إمكانيات تاريخية وحضارية ومناخية تتكأ على بلد يعمه الأمن والأمان الذي يبحث عنه السواح بمختلف فئاتهم وجنسياتهم؛ لذا فالمجاملة في هذا الوضع ستؤدي إلى التأخر عن إحداث ثورة اقتصادية وسياحية في وقت يعج فيه العالم بالمشاكل الأمنية التي تقض مضجع السياحة، ولانفراد السلطنة بخصوصية يشهد لها العالم فإنه من الواجب على صنّاع القرار أن يلتفتوا للمؤسسات الأكاديمية التي لم تحدث حتى اللحظة أي تغيير؛ فالقوى العاملة في القطاع السياحي معظمها قوى وافدة تقدم صورة سيئة عن حضارتنا وهويتنا، وهناك الكثير من التقارير الرقابية تؤكد على ضعف هذه المؤسسات، إلا أنَّ المجاملات هي من جعلت تلك المؤسسات تسير في نفق مظلم بلا هوية أو وجود يذكر.

 

همسة:

"إنَّ شوقي كبير.. لا تكفيه باقة ورد يتوسطها دهن عود كمبودي.. ولا يشبعه نهمي وولعي بكِ.. فمع تناثر عطرك المحبب على الطرقات التي تمرين فيها أجد سكون لنفسي.. ومع ثورة العاطفة لدي أجد في حياء عينيك هدوءا يسبق عواصف وثوران كبير.. فهل بهذا الامتداد المتناهي في الكبر والمتناسق في الصغر سأجد لحظة السكون التي تروي ضمأ متجدد..؟ ربما إذا لم توصدين الأبواب.. لأكون مجرد سائح بين هذا الوجود، متلمسا عظمته، وأحكي أحداثه لنفسي.

* كاتب وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك