شواغر للموهوبين

أسماء القطيبي

مُحمَّد.. شابٌ في الثامنة عشرة من عمره، هذه هي المرة الثانية التي يدرس فيها مقرَّرات الصف الثاني عشر، بعد رسوبه أول مرة؛ فرغم كثرة مذاكرته وانتباهه في الحصص، إلا أنه يجد صعوبة في فهم بعض المواد العلمية، وهو بهذه المحاولة لا يأمل سوى بالنجاح، والحصول على شهادة الدبلوم العام، حتى يقوم بعدها بالبحث عن وظيفة تؤمن له حياته، طالما أنَّه لن يستطيع إكمال دراسته العليا في إحدى الجامعات أو الكليات، كما يُشير إلى ذلك مُعدَّله المتدنِّي. وعلى الأرجح، سيلتحق مُحمَّد بوظيفة في أحد القطاعات العسكرية أو في مؤسسة ما، ولن يُفكر بعد هذه السنة في موهبته الفذة في رسم الوجوه، وسينسى كَمْ هو بارع في تصوير المشاهد بالألوان، وسيبتسم بسخرية عند تذكره لنصيحة معلم الفنون الذي قال له: "لا تتخلى عن حلمك، ولا تتوقف عن الرسم".

لا بد أنك -عزيزي القارئ- صادفتَ في حياتك قصصا مشابهة لقصة محمد، عمل أصحابها في مهن لا تمت لما يجيدون القيام به بصله، وللتكيف مع الواقع الذي لا يشبه الأحلام السالفة، حاول بعضهم أن يخفي هذه الموهبة عن العيون، من باب الاستخفاف بجدواها، أو لمحاولة تناسي الماضي الذي كانوا يتخيلون فيه أنفسهم موسيقيين ورسامين ومسرحيين يشار لهم بالبنان. فما فائدة الموهبة التي تزهر في فكر الفنان إن لم يستطيع ممارستها كما يريد، وقتما يريد؟ وما فائدتها إن لم يتم صقلها بتفرغ الفنان وإشتغاله عليها ليل نهار مضيفا إليها الشغف لتثمر فنا راقيا ومؤثرا؟ وما جدواها للفرد إن لم يستطع بها أن يحيا حياة كريمة؟

ويقول نوبوأكي نوبوهارا في كتابه "العرب وجهة نظر يابانية" -الذي وصف فيه بعض مشاهداته في الدول العربية- "... كما عرفت عن قرب كيف يضحي المجتمع بالأفراد الموهوبين والأفراد المخلصين، ورأيت كيف يغلب على سلوك الناس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الوطن؛ لذلك كانت ترافقني أسئلة بسيطة وصعبة: لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقدونها؟ ولماذا يكررون الأخطاء نفسها؟"، إنَّ ذات الاسئلة البسيطة الصعبة نتساءلها نحن العرب، ولماذا أيضا يكثر الحديث عن دعم المواهب في الندوات، بينما لا نجد بروزا إلا لعدد قليل منها؟ ولماذا لا تستفيد دولنا من هذه الطاقات الشبابية التي ستمثلها في المحافل العالمية بكل فخر؟ وإلى متى سيظل الحال على ما هو عليه؟ هل يا تُرى سنستمر في التصفيق للمشاريع الخجولة التي تحاول إحداث فرق لا يكاد يلاحظ لنغطي على الحقائق الصادمة؟

قد يقول قائل إنَّ هؤلاء الموهوبين يتحملون جزءًا من المسؤولية؛ كونهم لا ينضالون من أجل الاستمرار في القيام بما يحبونه، ولا يسعون لتطوير مواهبهم بأنفسهم؟ نعم هذا الكلام يبدو صحيحا نظريًّا، ولكن بنظرة عن كثب للواقع، وبالوقوف على المعوقات والإحباطات التي تواجه هؤلاء الأفراد، تجعل من هذا المتفائل يتراجع عن قوله، ويحوقل على حال أمم تحارب الجمال محاربتها لعدو أو أشد.

ومما يجب الالتفات إليه أنَّ أصحاب المواهب هؤلاء أشخاص مرهفو الحس، سريعو التأثر؛ لذا فإنَّ خسارتهم لمواهبهم هي خسارة لشيء من أنفسهم، كونهم يعبرون عن ما حولهم بطرق إبداعية تنظر للمعاني بعمق أبعد، ولأنهم كذلك وجب معاملتهم معاملة خاصة؛ من حيث الاعتناء بهم، وتقديم أعمالهم للمجتمع، وتقديمهم في الفرص و الشواغر؛ فهؤلاء هم النخبة التي تبرز الفنون، واجهة المجتمعات ومقياس رقيها.

... إنَّ الاعتناء بمواهب هؤلاء الشباب من الجنسين أمرٌ يحتاج لبعض الخطوات العملية، بعد أن اكتفينا من التحليل والتنظير في هذا الأمر، وأول خطوة وأهمها برأيي أنْ تقوم مدارس السلطنة جميعها بترشيح نخبة من الطلاب الموهوبين في كافة المجالات، ليتم اختبارهم من قبل مُختصِّين، ثم قبول أكفأهم لإكمال الدراسة في المجالات التي يبرعون فيها بحيث يتم استثناؤهم من شروط القبول التي تتضمن معدلات مرتفعة قد لا يستطيعون تحقيقها. وأثناء دراستهم يتم إلحاقهم بالتدريب العملي، وتنظيم رحلات لهم للتعرف على الفنون في دول أخرى. أو على الأقل أن تقام معاهد مدعومة حكوميًّا لدراسة هذه الفنون بشهادات معتمدة يمكن للفرد بعدها أن يؤسس عمله الخاص بحيث تصبحه موهبته هي مصدر رزقه؛ فالمواهب تكاد تكون موجودة في كل زقاق وحي، هي فقط تحتاج إلى قليل من الاهتمام والدعم لتبدع وتشارك في بناء عمان جنبا إلى جنب مع أصحاب المهن المختلفة.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك