المفروض والمرفوض

رحاب أبو هوشر

لا يُمكن حَصْر ما يدور بين فكَّي "المفروض والمرفوض" في حياتنا بدءا من الأسرة بموروثاتها الخاصة، إلى المجتمع وقائمته الطويلة من المفروضات، تجاه الأفراد وسلوكهم الشخصي والعام، ما بين أشد اللحظات خصوصية وأكثرها عمومية اجتماعية، ناهيك عن قوائم السياسة التي تعج بالرفض والفرض في مستوى المحرمات.

والحالتان لا بد أنْ تجري صياغتهما على نحو يفيد الالتزام بقوانين وتعليمات محددة، وعلى الأغلب تكون مكتوبة، تقيد القيام بفعل أو سلوك ما، في مكان وزمان محددين، لأسباب وظروف معلنة وواضحة، ولخدمة حق عام أو مصلحة عامة. أي أنَّ ثمة ما يحكمها وهو الوضوح بالتشريع، لكن المرفوض في حياتنا لا مرئي، والمفروض غامض ضبابي، ومن العبث البحث عن مصدر تشريع محدد وواضح، لكثرة المصادر وتعددها، ناهيك عن تداخلها، بل وتناقضها أحيانا.

والمسموحات يمكن عدُّها على أصابع اليدين فقط وربما أقل من ذلك. أما قائمة المرفوض، فإنها طويلة؛ قد تحتاج صفحات لتدوينها بالتفصيل. الاجتماعي منها يتوارى خلف العرف والإرث الثقافي، رغم أنها لا تفلح في تقديم إجابة مباشرة وحاسمة لسؤال الرفض. لن تحصل طفلة على إجابة واضحة ومقنعة لرفض لعبها مع أقرانها مع الأولاد والبنات عندما تبلغ، ولن تعرف امرأة بالضبط، لماذا هي مطالبة بتغطية وجهها في محيط يفرض ذلك، أو لماذا يرفض عملها وسفرها. الرجل له حظه من المفروض أيضا، وإن كانت قائمته أقصر وأخف وزنا. ومع هذا، فإنَّ زواجه مثلا مفروض اجتماعيا أيضا، ويرفض مالك بناية أن يسكنه شقة إن عرف أنه أعزب، ويمكنه السير في الشارع، ولكن بشرط عدم الضحك "بخفة"، ويصادر حق التعبير الحر عن المشاعر من كليهما، الرجل والمرأة، حرصا على هيبة المجتمع، والتزاما بالمفروض!

وفي المفروض الكثيف السطوة: اعتدنا الإقامة بين الحدود الفاصلة، والحواجز الشائكة، حتى لم تعد ترى، لطول المكوث فيها. كثيرون ينكرون وجود مفروض عليهم، لأنهم احتلوا به من الداخل، وأصبح جزءا من نسيجهم الفكري والنفسي. العقل المسكون بما أملي عليه، تعطلت قدراته النقدية واستلبت طاقته، وتمَّت برمجته للتكيف مع الحدود والقيود، وكبحت رغباته وتساؤلاته. عقل مدجن وإرادة أسيرة، جديران بأن يوهما الشخص بأنه حر، وحر تماما.

أسرى مفروضات، ممتثلين لها، يصل بهم التدجين حدَّ الاقتناع بأنهم يعيشون حياة طبيعية، وممارسة الحياة كما لو أنها كانت دائما هكذا، بل إنها الحياة الفضلى. لا يستشعرون الجدران المبنية من طوب الفرض والرفض، وكل طوبة موسومة بما يحجب عنهم فضاءات وعوالم وإمكانيات وحيوات أخرى، ويحجب عنهم ذواتهم وإدراك قيمتها. جدران تعلو وتتطاول دون انتباه لقسوته ولا إنسانيته، ودون التفكير بأي تغيير، هل سيصدق المحبوس في خمسين مفروضا، أنه فَقَد حريته، إذا أصبح عددها ستين مثلا؟!

يُنتج خطاب "الفرض والرفض" أُناسا مُنضبطين مع إيقاعه، ومثلهم حماة وحراس، يصنفهم المجتمع بكونهم "حكماء"، يعرفون القواعد والحدود، ويحرصون على الموروث والمألوف والمروج له، ويشار إليهم بعقلاء القوم، يسعون للمحافظة على العادات والتقاليد والقيم التي نشأ المجتمع عليها، وتسارع إليهم السلطة السياسية، ليقوموا بعملهم كصمام أمان لديمومتها وإطالة عمر ذلك الخطاب.

لا تنفصلُ حكمة أولئك الحكماء عن فلسفة العبودية؛ فالمستعبَد لزمن طويل لا يغادر سجنه إذا ما فتحت له الأبواب، ويبقى في حيز الأسر؛ حيث قضى عمره يمارس حياته التي "عرفها"، بلا أي معوقات. إنَّه حرٌّ إذن، من قال إنه احتجز وفرضت عليه الإقامة؟ هو لم يشأ المغادرة وحسب. كم هو حكيم، ويدرك مخاطر القفز خارجا، وأن الأمان خلف خطوط المفروض!

ويتضافر "المفروض والمرفوض" السياسي مع الاجتماعي؛ ليُحكم طَوْق الاختناق. وللشعوب العربية تجربة الخبير مع نظم تفرض ما تشاء وقتما تشاء أي نشاط تشتم فيه رائحة مهددة؛ فهي تمنع التظاهر واللقاءات والاجتماعات، وتصادر الكتب والكلام. تمنع البشر من أن يصبحوا بشرا، تفرض عليهم مستوى البقاء، وترفض حقهم بالحياة.

عَبْر زمن من قبول المفروض والتعاطي معه، يُصبح أكثر عادية وألفة من المرغوب والمسموح، حتى يكاد لا يثير تساؤلا، أو يستدعي حرقة وألما، وتبدو أي محاولة بديهية لفهم سبب فرضه أو مقاومته، مثيرة للريبة وعدم ارتياح الآخرين. ويفرز مناخا قارا، لا يتسامح مع أي تمرد، بل يعتبره طيشا واستهتارا، وفي أحسن التوصيفات مغامرة. أما عيش الحياة، فلا يُصبح ممكنا إلا في المساحات الخاصة السرية، حيث تسقط هيبة الخارج المفروضة، ترفض كلها.

تعليق عبر الفيس بوك