مداريَّات حزينة!

فيصل الحَضْرمي

يُدهشك كلود ليفي شتراوس في كتابه "أحزان مدارية" بعدَّة أمور تتجاوز حدودَ تخصصه العلمي في حقل الإثنوغرافيا؛ بحيث يدفعك إلى التفكر في الطبيعة المركبة لشخصيات العلماء، كما في الجانب الإنساني، العادي، فيها. فعبر صفحات الكتاب -الصادر سنة 1955- نتعرف شيئاً فشيئاً على شتراوس الرحالة، والصياد، والشاعر دون أن يكتب نصوصاً شعرية، وكاتب المسرحية الذي لم يكمل مسرحيته الوحيدة، وأخيراً شتراوس بائع الحاجيات الذي يقايض عقداً ببيضتين بعد مساومة شديدة مع مومسات إحدى المستوطنات، دون أن يغيب عن بالنا بالطبع أن سارد هذه الأحزان، هو في المقام الأول أستاذ جامعي في علم الاجتماع وعالم أنثروبولوجي وأحد رواد البنيوية دون أن يدري، كما سيقول لاحقاً.

ولولا تعرفنا على الشاعر في العالِم لكان أكثر ما يستحق أن يثير الدهشة هو العنوان نفسه؛ لأنَّ أول شيء اعتادت العين أن تسقط عليه في مداريات العالم الجديد التي تشكل محط الاهتمام الأكبر للكتاب، وتحديداً برازيل الثلاثينيات من القرن الفائت، هو التوحش المزدوج للقبائل الهندية قيد الدراسة ولبيئة الأمازون والمناطق المجاورة التي تقطنها أو تترحل عبرها تلك القبائل، والبدائية التي تتسم بها لغاتها ومعتقداتها وأنماط حياتها. فمن أين جاء الحزن إذن؟ وكيف استطاع شتراوس دون غيره أن ينظر إلى "المتوحشين" فيرى ما لم يره غيره دون أن يكتفي بما رآه ورأوه بالمثل من وحشية وتخلف؟

لنقل إنَّ شتراوس نظر إلى هؤلاء البدائيين بعين الشاعر فأطل عليه الحزن من شرفات الزمن الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل. كان العالم المخلص لبحثه يتأسى على زمن مضى وجد فيه من سبقه من مستكشفي القرن السادس عشر، قبائل أكثر تماساً مع موروثها العظيم الضارب في القدم وذات تعداد بشري أكبر مما كان عليه الحال وقت قيامه برحلاته الموصوفة في الكتاب بين عامي 1935 و1938، فقد سبقه ليري وستادن وتيفيه إلى هذه القارة قبل أربعمائة عام أيام كانت الأرض وسكانها لا يزالان في طور العذرية الكاملة، وكانت أكبر مكافأة حاز عليها أولئك المستكشفون الأوائل، ولم يتركوا له منها ولو نزراً يسيراً، هي الشعور بالمفاجأة التي تتولد عند من يكتشف الشيء دون أن يكون لديه أي تصور مسبق عنه، بعكس شتراوس الذي قرأ الكثير عن تلك القبائل فكان يمني النفس إذن بالوصول إلى مناطق برازيلية أخرى لم تطأها أقدام مستكشف آخر والعثور على قبائل لم يسمع عنها من قبل، علها تروي تعطشه للاندهاش، وهو الأمر الذي لم يتحقق أبداً.

ومن جهة أخرى، كان شتراوس يقع أسيراً للحسرة والأسف كلما فكر في الأجيال القادمة من الإثنوغرافيين وتخيل الأسى المضاعف الذي سيستحوذ عليهم عندما لا يتبقى من القبائل الهندية سوى مجموعات متشرذمة لا تكاد تكون مجتمعاً ذا قوام متماسك ومتشبث بالفروق الأصيلة التي منحته هويته المتفردة عبر عشرات القرون، بحيث يمكن تثبيته تحت المجهر بغرض الدراسة والتحليل، هذا إذا كان لدى تلك الأجيال من الباحثين قليل من حظ ولم تنقرض هذه الشعوب عن آخرها بمرور السنوات.

أما الحزن الثالث والأخير، فكان مصدره الحاضر الذي عاشه وسط أناس يعلم يقيناً، من خلال الكتابات والإحصاءات التي قام بها من سبقوه، أن أعدادهم تتناقص بوتيرة سريعة وأن القبائل التي كان بعضها يتكون من آلاف الأفراد إبان القرن السادس عشر تقلص عددها إلى بضع عشرات، بل إنَّ شتراوس وجد قبيلة اقتصر عدد أفرادها على ثلاثة عشر شخصاً. كان ذلك الحزن في حقيقته حزنهم الذي شعر به وهو يتأمل المنحدر الذي قطعوا شوطه الأكبر ولم يتبق لهم سوى القليل من الزمن العاثر حتى يكملوا سقوطهم بين يدي الصفر، تماماً كما تفعل كرة ثلج لا حول لها ولا قوة تتدحرج بفعل عجزها عن التشبث بمصير آخر أسعد، دون أن يتمكن من معرفة ما إذا كان يتملكهم حقاً الشعور بالحزن على ماضيهم الذي اندثر برمته إلا من جنبات الذاكرة المترعة بالحكايات، والحزن على ذكرى وجودهم المهدد من قبل الفناء الذي ينتظرهم بهدوء وثقة عند خط النهاية.

وكان أولئك البشر الذين شكلوا عبر أربعة قرون مادة خصبة لكتابات الرحالة والمستكشفين الأوروبيين، وثيمة أساسية عند الحديث عن العجيب والمذهل والغرائبي ربما لا يماثلها إلا المخلوقات الفضائية في أيامنا هذه إذا صحت المقاربة، يخطون خطواتهم الأخيرة نحو الانقراض، وكانت تلك الفاجعة تقع مباشرة أمام ناظري شتراوس الذي كان يعلم جيداً أن هذا الخطر المحدق لم يكن سوى نتيجة طبيعية لوصول الأوروبيين إلى هذه القارة التي ظلت معزولة عن أطماع "المتحضرين" حتى بداية عصر الكشوفات. أتى الأوروبيون إلى العالم الجديد بجشعهم وأمراضهم ففتكوا بالسكان الأصليين وشردوا من تبقى منهم وأورثوا القلة الباقية كثيراً من الأوبئة التي لم يكن لها وجود في الأمريكيتين كالزهري والجدري، ونهبوا الخيرات ودمروا البيئات التي كانت تشكل للقبائل الهندية أوطاناً وكانت عناصرها تمثل المقدس وحبل الوصل مع أرواح الأسلاف وضمان وجود للأحفاد.

هكذا رأى الإثنوغرافي لحظة العمل، الإنسان في كل الأحوال، حزنه وحزن القبائل الهندية يسيل في مجرى واحد يفطر قلب المداريات. ومن هنا، جاء عنوان الكتاب الذي سطره شتراوس بعد عشرين سنة تقريباً من رحلته الأولى إلى البرازيل، وهو كتاب استقبله النقاد بحفاوة بالغة فور صدوره؛ حيث وصفته الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاج بأنه أحد أهم الكتب في القرن العشرين، كما كان المشرفون على جائزة غونكور للأدب الفرنكفوني يتأسفون على عدم تمكنهم من إهداء الجائزة لهذا العمل الكبير باعتباره يندرج تحت كتب المذكرات وليس عملاً خيالياً.

faisalsalim@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك