معطيات نهضتنا الحديثة وتفاعلها مع الحاضر

عبد الله العليان

أدركت النهضة العمانية الحديثة التي قادها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم منذ بزوغها في 23 يوليو 1970م، أهمية التفاعل مع العصر مع الحفاظ على الإرث التاريخي الذي يعد الرصيد الإيجابي الذي نعتز به لكونه الاستمداد المعنوي لحركة النهضة ومعطياتها الحديثة، ولذلك نرى الاهتمام الذي يوليه القائد المفدى لهذا الأمر نظرة عميقة للإنسان العماني وواقعه، مع ضرورة الانفتاح على هذا العصر وحضارته ورقيه المادي، وهذا ما قاله جلالته "وقد توخينا أثناء مسيرتنا المقدسة بالبلاد أن تكون برامج أعمالنا نابعة من صميم واقعنا ومنفتحة على حضارة هذا العالم الذي نكون جزءًا لايتجزأ منه. كان لزاماً علينا أن نبتدئ من الأساس ومن واقعنا، وهذا الأساس هو الشعب في عمان. وقد سلكنا مختارين، أصعب السبل لنخرج به من عزلته ونأخذ بيده إلى طريق العزة والكرامة، وفي نفس الوقت تحملنا مسؤولية حمايته من التمزق والضياع وإحياء حضارته واستعادة أمجاده وربطه ربطاً وثيقاً بالأرض ليشعر بعمق الوطنية، ومدى التجاذب بين الإنسان العماني وبين أرض عمان الطيبة". هذا التوازن القويم هو أساس نجاح التوجهات النهضوية العمانية وتماسكها في مواجهة التحديات والتغيرات التي جرت وستجري في عالم اليوم من تقلبات عصفت بأمم وشعوب كثيرة أخذت المنهج الأحادي الشمولي، ونبذت القيم، فكان مصيرها متحف التاريخ. فمنهجية التوازن بين التفاعل مع العصر والحفاظ على القيم والثوابت والإرث التاريخي جعلت النهوض العماني يمشي في تدرج محسوب، وسير مرسوم بلا منغصات أو انحدارات تقّوض ما تم إنجازه واستلهامه من التقدم والتحضر؛ ليضاف إلى هذا البناء التماسك القومي ولذلك فإنّ النهضة العمانية لم تعرف الثنائيات المتناقضة كما وجدت بعض الأمم كالتناقض بين الأصالة والمعاصرة.. بين القديم والحديث.. بين الثابت والمتغير.. بين التراث والعصر، هذا الالتئام عزز هذه النهضة، وأعطاها مداها واتساعها وقوى بنيانها لتكون أكثر استيعاباً لمنجزات الحضارة وفي نفس الوقت أقدر استلهاماً لقيم التراث. والدعوة إلى التفاعل مع العصر والدعوة إلى استلهام التراث واستيعابه لا تعني العودة إليه بالمعنى الزمني وإنما تعني الأخذ بنمط حضاري يمدنا بالقوة والمعرفة وقادر على تحقيق تطلعات الأمة وطموحاتها.. فالعودة إلى الماضي لا تعني الهروب من مسؤوليات الحاضر وتحدياته. وإنّما هي عمليّة واعيّة لتحقيق الوجود لأنّ التاريخ هو الذي يمتطي صهوة الحاضر وعدته، وأنّ المجموعة البشريّة التي تنفصل عن تاريخها فإنّها تقوم بعملية بتر قسري لشعورها النفسي والثقافي والاجتماعي وسيفضي هذا البتر إلى الاستلاب والاغتراب الحضاري.

فالعودة إلى الماضي عودة تاريخية تحاول أن تتواصل مع القيم والمبادئ والسياقات الفكرية والنظم الثقافية التي صنعت ذلك الماضي المجيد. والتوازن الذي حققته النهضة العمانية كان أكثر اتساقاً مع الذات، وأقوى ارتباطا مع الواقع، لأنّ هذه المعادلة العقلانية المتوازنة جمعت بين الثوابت والمتغيرات. فالثوابت إطار والمتغيرات حركة داخلة، وهذا يعني وحدة الأصل وتعدد الصور، فمثلاً الكون في صورته العامة وإطاره الواسع ثابت لكنه ـ بقدرته سبحانه ـ دائب الحركة بين ليل ونهار، شمس وقمر، صيف وشتاء وهكذا.

فترابط الثبات بالحركة في منهج المعرفة الإسلامي قانون أصيل شأنه شأن قانون التكامل والوسطية والتوازن، وهذا الثبات ليس بمثابة الجمود أو التوقف، لكنّه بمثابة علامة الطريق التي تحول دون الوقوع في التيه، وفي مجال الفكر يكون هذا الإطار عاصماً من التخلف أو الانحراف، وهو معين على تنوع المضامين الفكرية داخلاً عصراً بعد عصر، فلا تزال الأمّة قادرة على حمل رسالتها، وحماية أمانتها، فإذا ذهب الثبات تحطم الإطار وفقد الرباط الذي يجمع بين الأمس والغد، هذا الإطار الثابت يتمثل في مجموعة القيم التي يقوم عليها بناء الأمة والذي تستمده من عقائدها وأخلاقها وذاتيتها وطوابعها المتفردة. وينبغي من هنا أن تكون للنهضة صلتها بالماضي من منطلق الاستلهام لا التجاوز والقفز على مضامينه النيّرة التي يمكن أن تجسد تطلعات الأمم في استخراج الكثير من العبر والإضافات التي أنجزها الأسلاف، وكانت خير معين لهم في نهضتهم، وما حققوه من إنجازات". وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة التمييز بين غاية النهضة ومضمونها، وما يقتضيه من الالتحام بالآخر وبين منابع النهضة وحسها التاريخي، أي مرتكزات قوتها الأساسية، وهو الجانب المتعلق بالهوية والتراث. فعندما انطلقت النهضة في عمان بقيادة جلالته رسمت الملامح الأساسية لهذا التحرك نحو المستقبل بظلال الحاضر، و وازنت بين ما يجب أخذه وبين ما يجب تركه، بين الأخذ بتكنولوجيا العصر والعناية برصيد التراث، والتفاعل مع الحضارات الإنسانية وفق المصالح المشتركة وبين الاستمساك بالخصوصية والهوية الذاتية وهذا ما قاله جلالته المفدى في إحدى المناسبات "لقد جعل الله بين أفراد بني البشر من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ما يقوي صلاتهم ويدعم علاقاتهم لتتسم حياتهم بخصائص المدنية المحكومة بنظم الاجتماع، ما ذلك إلا مظهر من مظاهر الاستخلاف. واعلموا أنّ الحضارات لا تقوم إلا إذا توفرت لها المقومات الأساسية وعلى رأسها حب العمل بين الأمة الواحدة فما أحرانا نحن بني الإنسان بالعمل وقرآننا الكريم يقول ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى).. صدق الله العظيم."

وقد راعى الفكر النهضوي العماني الذي يقوده جلالة السلطان قابوس بن سعيد هذه الفجوة القائمة في الحضارة المعاصرة، وتلك القواطع الغائبة في عقلية النهوض الذي لم يوازن بين القيم والمادة، مع انطلاقة هذه الحضارة الإنسانية فكان يلازمها الاضطراب والتوجس والنظرة الحائرة للمستقبل، وغلّبت الجانب النفعي المادي على مضامين القيم الروحية والتراث الذي يعتبر امتدادا للحاضر، ونتيجة لذلك فقد التوازن المطلوب، والحضارة في أساسها "غائية وليست وسيلية" والإنتاج الفكري والعلمي والتقني والفني مظهر للحضارة، وليس هو الحضارة. وكل الإبداعات التي عرفتها الإنسانية من آنية الفخار حتى المركبة الفضائية التي حملت الإنسان إلى القمر، وكل النظريات ابتداء من الدين حتى آخر نظرية فيزيائية أو قانونية لم تبتكر لذاتها؛ ولكن للوصول بالإنسان ـ كل الإنسان ـ إلى الهداية، والاستقامة، وتحقيق المصلحة العامة، وإقرار السلام، والتخفيف من النوازع العدوانية، والقضاء على غريزة الظلم، وتنظيم الحياة في نفسها وبين الناس. فإذا انحرف مفهوم الحضارة عن هذه القيم واتجه إلى استغلال الوسيلة للقضاء على الغاية، فأصبح القانون مثلاً يتخذ إجهاض العدل والذرة لتدمير الإنسان وكل ما أنتج من حضارة، والقمر الاصطناعي للتجسس، والطائرة لنقل القنابل، والباخرة لحصار الدول والشعوب وتجويعها وقتل أطفالها بالمرض إن لم يموتوا بالجوع وشظايا القنابل؛ وإذا حصل كل ذلك انتفت الحضارة، بل ماتت الحضارة، ولو تطورت وسائلها وأساليبها. والتقليد الأعمى الذي أشار إليه جلالته في حديثه إلى أبنائه الطلبة هو أحد المساوئ للكثير من المجتمعات في عالم اليوم، والتقليد الأعمى غير الاقتباس والانتقاء الإيجابي الصالح غير الركض وراء التقليعات والموضات للمسايرة والمظهرية، تحت دعاوى (العصرية) الخ، إمّا إذا كانت العصرنة تعني دفع المسلمين إلى مواجهة الحياة العصرية، والالتقاء بالحضارة العالمية والفكر البشري (أخذاً وعطاءً ورفضاً) فإن ذلك أمر لم يتوقف يوماً ما؛ فقد كان الفكر الإسلامي دوماً فكراً مفتوحاً قادراً على الأخذ والعطاء وكانت له من آفاقه المتطورة ما يمكنه من الالتقاء بمختلف المفاهيم الحديثة البناءة في مختلف المجالات.

ولم يكن الإسلام بقيمه الثابتة عاجزاً يوماً عن الحركة والتقدم والعطاء بل إنّ هذه القيم الأساسية من عقيدة وشريعة وأخلاق كانت هي أقوى الحوافز لإعطاء البشرية قيمة إنسانية أعلى من مفهومها المادي الخاص. وجلالته بفكره الثاقب وبصيرته النيّرة أدرك منذ البداية أن أية "عصرنة"لن تتم وفق ما هو منشود ما لم تتأسس على مبدأ الاعتزاز بالميراث الفكري الحضاري للأجداد، وما لم يسر العمل في "العصرنة" جنباً إلى جنب مع المحافظة على التراث وإبرازه إلى حيز الوجود كمعين متدفق يغذي الحاضر ويقدم له الرؤى ويزوده بالخبرة الكافية.

لقد كانت بلادنا عمان في ما مضى وما زالت تعتز بتقاليدها وتاريخها، ومع أنّ المجتمع العماني يعيش اليوم متغيرات عصره، إلا أنّه لم يفرط في هويّته وتراثه، بل استطاع أن يجمع بين الطيب من تقاليده والطيب من واقع حاضره والحمد لله "مضيفاً جلالته في فقرة أخرى "بل إننا نؤكد أنّ ديننا في جوهره يدعو إلى ذلك دون المساس بالأساسيات العقيدية، وهو يدعو إلى مواكبة مستجدات كل عصر من الاجتهاد كلما توفرت شروطه". هذه النظرة المعطاءة المتوازنة التي راعتها النهضة في انطلاقتها إلى الإنجاز الكبير بين الحاضر وتحدياته الحضارية والماضي الزاهر بتراثه وقيم المجتمع وعاداته وتقاليده العريقة، كلها كانت السند الأقوى في هذا العطاء والإنجاز الذي عمّ أرجاء عمان، وكان بحق إنجازا باهراً شهد له كل المتابعين لسير النهضة العمانية والتوازن المحسوب ـ كما قلنا ـ والذي

رافق تنميتها وهو ما عبر عنه جلالته "وإذ نحمد الله على كل ما أنعم به علينا فيما أنجزناه من مراحل أساسية للنهضة الشاملة فإننا نعتزم تطوير وتحديث استراتيجية الدولة في كل أوجه التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي كافة المجالات التي تهم المجتمع وتخدم الصالح العام لبلادنا وشعبنا، وذلك وفقاً لرؤية شاملة ومتكاملة نسعى من خلالها لتحديد معالم الطريق إلى المستقبل، ومواصلة التقدم بخطوات مدروسة، وقد أعطينا توجيهاتنا للحكومة للبدء في دراسة هذه الاستراتيجية ووضع إطارها العام لتكون الأساس المعتمد لبرامج وخطط بعيدة المدى تهدف إلى تطوير مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي للبلاد بما يحقق طموحات هذا الجيل ويأخذ بعين الاعتبار مستقبل الأجيال القادمة." فالذي تحقق من منجزات كان شاهداً على التوجه السليم للسياسات التنموية في البلاد بفضل التوجه نحو التقدم الحضاري والسير لبناء دولة عصرية " تحظى باحترام الدول المجاورة. وتلعب عمان اليوم دوراً حيوياً في الشؤون الإقليمية والدولية أكبر مما توحي به مساحتها، ويمتزج عمرانها العصري بجمالها الجبلي الطبيعي ويكمله، كما استعاد المواطنون كرامتهم ودماثتهم وأريحيتهم التي جبلوا عليها من خلال انتقالهم إلى بيئة العالم المتحضر والجمع بين نكهة الشرق والغرب، وقد تم بنجاح توفير الدوافع لمشاركة المواطنين من كل الأعمار في كل جوانب الحياة في البلاد. واليوم إن الازدهار الذي يعيشونه وفرص الصحة والتعليم وأسباب العيش المتاحة لهم قد تجاوزت ـ كما هو الحال في الدول الأخرى ـ حدود ما توقعه آباؤهم الأولون، فقد تمّ إنشاء بنية تحتية ممتازة وبناء قاعدة عامة للمؤسسات."

وإذا كانت مسيرة النهضة قد أعادت لعمان وجهها المشرق وتاريخها الحضاري ودورها الرائد في محيطها الإقليمي والعربي والدولي؛ فإنّ هذا الإنجاز ما كان أن يتحقق لولا السياسة الحكيمة والمستنيرة التي يقودها جلالة السلطان قابوس المفدى والالتفاف الشعبي حول قيادته لبناء عمان حرة كريمة أبيّة تتفاعل مع العصر وتتجاوب معه، وفي نفس الوقت تحفظ قيمها وتراثها وتستخلص منه العبر والتجارب النيرة.

إن التحدي الجغرافي الذي واجههه العمانيون عبر تاريخهم المديد يعد بمثابة الروح الدافعة للنشاط والإبداع والابتكار، وكان العامل في تكوين شخصيتهم؛ من حيث الجدية والتحمل والمثابرة والصبر على الشدائد، وأن الحياة الهانئة والاستقرار الحضاري والرقي لايتأتى إلا من خلال هذه المعطيات الدافعة ومنطلقاتها الأساسية، ومن هنا ندرك لماذا نحن العمانيين لنا سمات وملامح في التعامل يشير إليها الكثيرون ويجهرون بها؟..

إنّها روح التحدي والمثابرة للوصول إلى الهدف المنشود.

تعليق عبر الفيس بوك