أرفض المسافة

أمل عامر السعيدية

صارت هذه المساحة الأسبوعية التي أكتب فيها تقض مضجعي؛ فأنا أفكر طوال الوقت بما يمكنني مشاركته معكم. حتى وإن كان ثمة إنسان واحد يقرأ لي فهذا يُحفزني لمحاولة أصيلة للتعبير عن نفسي لتحقيق هذا التواصل الذي يدلني على أناي في نهاية المطاف. نعم هذه الكتابة تمنحني فرصة للتعرف عليها أكثر ولأنني مدركة تماماً أننا صرنا إلى زمن لا يمتلك الواحد منِّا وقتاً طويلاً ليتصفح مقالاً هنا أو هناك، فبعضهم يقول أن لا قيمة علمية حقيقية يمكننا أن نتحصل عليها منه إلا أنني اعتبره نوعاً من "السوالف" التي أخوضها مع القارئ ونفسي.

قبل قليل كنت أستمع لأغنية محمد عبده "أرفض المسافة" يقول فيها بشجن لا تخفى عذوبته "أرفض المسافة.. أرفض الصورة على الرف البعيد" وباعتقادي أننا جميعاً لا نحب المسافات. وثمة حنين خفي يتلبسنا من حين لآخر لشغل حيوات أخرى غير هاته التي نعيش. نود لو أننا في مكان آخر هذه اللحظة، واستطاع الإعلام وحتى الأدب والسينما أن تخلق في أذهاننا صوراً حميمة عن أماكن لم نزرها قط وأعمال لم يتح لنا فرصة الاقتراب منها. لقد ظلت إحدى صديقاتي تصر على أنها تريد أن تكون "نادلة" في مطعم لتقديم المخبوزات كل صباح لأن هذه الوظيفة بدت بالنسبة لها رائعة ذلك لأنها شاهدتها في فيلم فرنسي. ويقول الكاتب الفلسطيني عمر محمود عن المسافة: "لولا المسافات لما كان لدينا هدف نتطلّع إليه، ولخسرنا جزءًا رئيسيا من ذكرياتنا التي تعزّ علينا، وتحجز حيّزًا حميميًا في دواخلنا الملتاعة". أنا، لو كنت مسافة تفصل بين شخصين يريدان أن يلتمّ شملهما، لشعرت بفخر شديد، وظلم أشد. الفخر لأنني جزء بنيوي من العلاقة، وعلى امتدادي أنا تتوزّع مشاعر الحنين وخيالات الحضن وساعات يملأها التحديق في السقف. أما الظلم فلأنني دائمًا سأكون، في نظر الشخصين، عقبة لابدّ من تخطيها، ومحلاً للتندّر ومعرضًا لإبداء الامتعاض. ولو حصل وقُطعت، أي قطعني من هم على طرفي، فلن يذكراني ولن يذكرا مجدي وما قدّمت من فضائل وما استخرجت منهما من ملامح يخبئ حزنها جمالاً قاتلاً.

ولأن الإنسان مساءل أمام حريته التي يُهددها الحنين على الدوام، فهو الذي يقبض عليها في صور تستثار عن حالة شعرية بعيدة، هو إن صح التعبير قاعدة المخيال الأولى، كان عليّ أن أحاكم المسافات التي فصلتها على مقاس حياتي وعن مدى جدية الرغبات التي أسعى لتحقيقها. ولعل الاختبار الأول الذي وضعت نفسي فيه، ارتبط بموقف يخص صديقتي التونسية أميمة. أميمة فتاة تبلغ من العمر ٢٠ سنة فقط. تركت أهلها وبلدتها التي تحب في تونس لتلتحق بإحدى جامعات ألمانيا لدراسة الهندسة فيها. تتحدث أميمة العربية بطلاقة والفرنسية والإنجليزية كذلك ولأنّ شرط الإقامة في ألمانيا يتطلب تعلم قدر ليس بالبسيط من الألمانية، بدأت وهي في الثامنة عشرة بتعلم هذه اللغة لوحدها قبل أن تدخل لاحقاً وفي وقت فراغها إلى معهد لتعليم اللغات. راهنت هذه الفتاة الصغيرة على كل شيء وذهبت بمحض إرادتها إلى مكان غريب وهي لا تملك أدنى فكرة إن كان يمكنها احتمال مصاريف العيش والدراسة. وها هي الآن تعمل في إحدى مطاعم الوجبات السريعة هناك في أوقات الفراغ. وتكاد لا تتوقف عن الركض بين الجامعة ومكان العمل من ثم العودة لمراجعة وتحضير دروسها، هذه الحياة التي تلازم "المحك" كم تمتلك جاذبية عالية. لكن هل تستطيع فتاة مثلي عاشت في الخليج العربي ولم تعاني كثيراً لتحصل على التعليم، وأصحبت منسجمة مع هذا النظام الريعي الذي يكفل لها خصائص وميزات حتى على صعيد التكوين الشخصي أن تحظى بهذه الحياة وتكون مستعدة لها فعلاً؟ حاولت دراسة الموضوع من كافة الجهات، أميمة تصرف في ٣ أشهر بعد عملية تقصي حثيثة قمت بها ربع ما يصرفه طالب عُماني مبتعث في ألمانيا في شهر واحد فقط. وجدتني في حماسة كبيرة لتقمص هذا الدور، رافضة المسافة التي تحول بيني وبين تحقيق حلمي بمواصلة الدراسة في التخصص الذي أحبه هذه المرة، لكنني وبعد هذه الشكوك المفيدة، استدعيت حديث سيوران عن هذا الموضوع: "إن الشعوب تثير فينا من الأحاسيس المتناقضة أكثر مما يثيره الأفراد. نحن نحبها ونبغضها في الوقت نفسه. نجعل منها موضوعاً تعلق ونفور كأنها لا تستحق منا عاطفة محددة المعالم. من ثم يبدو لي تحيزك لشعوب الغرب. التي لا أراك منتبها إلى عيوبها بدقة، تحيزا ناشئا عن المسافة، عن خطأ بصري أو عن حنين إلى ما هو بعيد المنال، بل ويخيل إليّ أنك لا تخلو من بعض المحاباة تجاهها، وليس غريباً وأنت بعيد أن تحمل عنه فكرة عجائبية". هو يتحدث عن هذا القدر الفاصل بيننا وبين شيء آخر بعيد نعطيه صورته التي نريد لا ما هي عليه فعلاً. من المهم أن اقترب وأن تقترب صديقي القارئ. وإن كان ثمة مسافة طويلة تحول دون وصولك، افحصها جيداً وجهز نفسك للخوض فيها. فالحياة معتركٌ قاسٍ.

amalalsaeedi11312@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك