الوسطيَّة الإسلاميَّة للعقل والحريَّة

عبدالله العليَّان

اهتمَّ الإسلامُ بحرية الفكر اهتماماً كبيراً، ولم يضع قيوداً على حرية الفكر إلا لحماية الدين؛ باعتباره من المقوِّمات الأساسية للمجتمع الإسلامي من التشويه والهدم، وللفرد بعد ذلك "أن يُفكر كما يُريد، وأن يتفكر في أوسع المجالات وأهمها من الناحية العلمية أو العملية، وله بل عليه أن يتفكر في خلق السموات والأرض وفي خلق الله جميعاً، وأن يعرض ذلك على عقله، وأن يتناوله من أوسع الجوانب ومن أدق تفصيلاتها، ويكفي للدلالة على اتساع المجال الفكري لدى المسلم أنه ليس أمامه محظورات فكرية عديدة حماية لمصالح متعددة قابلة للنقاش بطبيعتها.

ويمكن أن ترجع حرية الفكر والرأي في أصلها الإسلامي إلى آيات عديدة في القرآن الكريم، كما نجد في السنة النبوية أحاديث كثيرة تقطع بهذا الأصل. فقد احتوى القرآن الكريم على عشرات الآيات التي تدعو إلى التفكر والتدبر والتي تستنكر الوقوف عند مشاهدة الظواهر المحسوسة فحسب دون تدبرها والتفكر فيها.

ومن الحريات التي ضمنها الإسلام واعترف بها: "الحرية الدينية والفكرية"، ويستدل على ذلك من القرآن الحكيم في قوله تعالى "لا إكراه في الدين". وعن هذه الآية الكريمة، يقول سيد قطب: "إنَّ حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان؛ فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة. والإسلام -وهو أرقى تصور للوجود والحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء- هو الذي ينادي بأن "لا إكراه في الدين"، وهو الذي يبيِّن لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين. فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة، المتعسفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟! والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: "لا إكراه في الدين" نفي الجنس كما يقول النحويون، أي نفي جنس الإكراه، نفى كونه ابتداء فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع، وليس مجرد نهي عن مزاولته. والنهي في صورة النفي -والنفي للجنس- أعمق إيقاعاً وآكد دلالة".

والواقع أنَّ حرية الرأي والفكر من الضرورات المهمة للبحث المعرفي والفكري عموماً، والتي من شأنها أن تفتح آفاق النظر والابتكار والإبداع للعقل الإنساني الذي منحه الله -عزَّ وجل- للبشر، منطلقاً لاستجلاء الحقائق ومعرفة الحق من الباطل باقتناع ومصداقية داخلية.

والاختلاف حالة طبيعية، متناغمة مع نواميس الوجود الإنساني؛ إذْ اقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى، أن يخلق الناس مختلفين في قدراتهم الفكرية، وأمزجتهم وأذواقهم. فتختلف بسبب ذلك أنظارهم وإفهامه. ويعطي هذا الاختلاف والتنوع للحياة مظهر التجدد، ويبعدها عن التكرار والرتابة، ويمكن من تنويع الإنتاج الإنساني، ومن تكثير الصور الفكرية للموضوع الواحد.

ويظلُّ هذا الاختلاف المنتج للتنوع إيجابيًّا ومفيداً، ما دام نابعاً من تلك الفروق الفطرية، وعن التباين الموضوعي في البحث عن الحق وهذا الاختلاف في حدوده الطبيعية هو أصل الوحدة، ومنبع التقدم والتطور، وما علينا إلا أن ننزع من أذهاننا روح التشاؤم، ونعمق روح الثقة بالعقل والإنسان.

عندئذ يصبح الحوار -ونحن مختلفون- ممكناً، ويصبح الاحترام المتبادل شرطاً لاستمرار هذا الحوار. فالاختلاف الذي يسمح به الشرع هو نتيجة طبيعية ومنطقية لمشروعية الاجتهاد؛ لأنه من المستحيل القبول بالاجتهاد دون القبول بآثاره التي من جملتها اختلاف نظر المجتهدين. ولكننا في الوقت الذي نعتبر فيه أن الاختلاف حالة طبيعية مرتبطة بالوجود الإنساني، نرفض الاختلاف المطلق أو ما يصطلح عليه بـ"الاختلاف من أجل الاختلاف"؛ لأنَّ معنى هذا الاختلاف هو التشتيت الدائم والمستمر للآراء والأفكار، ويبقى كل منها منغلقاً على ذاته، رافضاً للآخر، كل منها يشكل عصبية لا تقبل التعايش والحوار؛ فهو صراع عصبوي حتى لو تجلبب بجلباب الاختلاف.

فالاختلاف في حدوده الطبيعية ليس مرضاً يجب التخلص منه والقضاء عليه، بل هو محرك الأمم نحو الأفضل، ومصدر ديناميتها، وهو يقود بالإدارة الحسنة إلى المزيد من النضج والوعي والتكامل.

والعقل أيضاً قرين الحرية، فلا عقل فعال دون حرية، ولا حرية مستديمة دون عقل يمارس التفكير والسؤال والمساءلة، ويتحرك دائماً نحو تجديد أفق المعارف والتصورات، وحرية تؤسس للشروط اللازمة لممارسة العقل سلطته ووظيفته الجوهرية. ومن خلال الصلة الوثيقة بين العقل والحرية، تتجدد أدوات المعرفة، وتتطور أنماط الإنتاج العقلي والمعرفي. ووفق هذا السياق نتمكن من القول، بأن الخرافة والتقليد الأعمى للآخرين كلها مضادات للحرية.. بمعنى أن سيادة الخرافة يعني تراجع مستوى الحرية، كما أن شيوع حالات التقليد الأعمى يعني ضمور مجالات الحرية. فلا يمكن أن تلتقي الحرية مع الخرافة، كما أنه لا يمكن أن تنسجم حالات التقليد الأعمى مع متطلبات الحرية.

والإسلام كفل حقَّ الاختلاف، واعتبره من النواميس الطبيعية، وجعل التسامح والعفو سبيلين للتعاطي والتعامل بَيْن المختلفين. وحق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو. وبهذا لا يخرج الاختلاف عن إطاره المشروع، وفي الوقت ذاته، يمارس دوره الحضاري في حفز الهمم والبحث عن الحقيقة، والتعاطي مع جميع الآراء والتعبيرات بعقلية حضارية في حفز الهمم والبحث عن الحقيقة، والتعاطي مع جميع الآراء والتعبيرات بعقلية حضارية تنشد استيعاب الآراء، وتستفيد منها جميعاً في بناء واقعها ومسارها.

فالاختلاف لا يساوي الرذيلة والإثم والخلل، وإنما هو ناموس كوني وجبلة إنسانية. والخلاف والتشرذم والتفرقة، هي التي تساوي الإثم والخلل. وعلى هذا ينبغي أن نجدد رؤيتنا للاختلاف، ونتعامل معه وفق عقلية جديدة، لا ترى فيه إثماً ومعصية، وإنما قدرة إنسانية مفتوحة ومتواصلة لإثراء الواقع والحقيقة.

وتبرز لنا في هذا الصدد علاقة الردة والحرية ومسألة قتل المرتد، كما ورد في بعض الأحاديث مثل حديث "من بدل دينه فاقتلوه" -رواه البخاري- لكن بعض العلماء يرون أن لا علاقة بين حرية المعتقد والارتداد عن دين الإسلام؛ فالارتداد -كما يراه بعض العلماء المسلمين القدماء وبعض المعاصرين- دون الدخول في تفاصيل تعدد هذه الآراء التي تباينت أحيانا في كيفية التعاطي مع هذه القضية، فبعض الفقهاء يرون أن معاقبة المرتدين في النظام الإسلامي، لا يعني رفض حرية الاعتقاد، بل يرون أن هذا الارتداد هو خروج على النظام العام، وتهديد كيان الدولة بما يصل إلى الخيانة العظمى. فالردة كما يراها هؤلاء "جريمة لا علاقة بها بحرية العقيدة التي أقرّها الإسلام، وأنها مسألة سياسية قصد بها حياطة المسلمين، وحياطة تنظيمات الدولة الإسلامية من نيل أعدائها، وأن ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن الردّة إنما هو باعتبار ولايته السياسية على المسلمين، وبذلك تكون عقوبة المرتد تعزيراً لا حداً. وأنها جريمة سياسية تقابل في الأنظمة الأخرى بجريمة الخروج بالقوة على نظام الدولة ومحاولة زعزعته، وتعالج بما يناسب حجمها وخطرها من معالجات. إذ يختلف الأمر كما لاحظ د.عبد الحميد متولي بين ردّة نصراني قد أسلم من أجل الزواج بمسلمة، ثم رجع إلى دينه لما تصرمت العلاقة، وبين حالة أو ظاهرة وراءها تخطيط وتنظيم واستعداد للانقضاض المسلح لتغيير نظام الدولة... فرق بين آحاد من الناس تهتز عقائدهم بفعل ظروف طارئة أو تأثير غزو ثقافي؛ فيعالج الأمر بما يناسبه من توعية وتربية وتحصين، وبين تبشير منظّم ومخطّط لنسف الإسلام ودولته؛ وبالتالي فرق في المعالجة ولابد بحسب اختلاف الأحوال.

تعليق عبر الفيس بوك