أوخي اليونانية

عبيدلي العبيدلي

لم يجد وزير المالية اليوناني يانيس فاروفاكيس، تعبيرا يصف به سلوك دائني بلاده أفضل من "الإرهاب". سبق فاروفاكيس بهذا التوصيف الاستفتاء على المقترحات الدولية التي ادعت، من وجهة نظره، أنها بصدد وضع خطة لانتشال اليونان من أزمتها الاقتصادية الخانقة. فقد جاء ذلك في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة إلـ"موندو" الإسبانية، أن "مقرضي البلاد يريدون زرع الخوف في الشعب اليوناني."

على نحو مواز، وفيما يشبه التنسيق غير المعد له، رفع الشعب اليوناني صوته قائلا "أوخي" باليونانية التي تعني "لا"، وحازت عملية التصويت الحرة المباشرة على 61 % ونيف من الشعب اليوناني الرافض الخضوع للشروط الأوروبية التي كانت تصر على أن تستمر اليونان في تقشف مجحف لفترة طويلة مقبلة.

وأمام هذا الموقف اليوناني شبه الموحد، الذي وضع بين يدي الحكومة اليونانية أقوى الأوراق في لعبة التنافس الأوروبية التي تريد أن تبقي اليونان في قبضة الدول الأكبر مثل فرنسا وألمانيا، بل وحتى الولايات المتحدة. هذا يفسر مسارعة ألمانيا إلى الدعوة لقمة أوروبية مستعجلة، سبقها اجتماع لوزراء مالية منطقة اليورو، من أجل "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، والإنقاذ لا ينحصر في الاقتصاد اليوناني، بل يتسع نطاقه كي يشمل منطقة اليورو برمتها.

واقع اليونان المتردي يعري النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، ويكشف الكثير من العيوب البنيوية التي باتت تعصف به. وعليه فمن يريد فهم ما وصلت إليه اليونان اليوم، لا بد له من عودة إلى مطلع العقد الأول من هذا القرن، قبل ان تنظم اليونان إلى منطقة اليورو. حينها كانت أثينا ما تزال ترزح، كما تجمع عليه معظم الدوائر الاقتصادية المتابعة لأوضاع تلك الدولة الصغيرة نسبيا في أوروبا الغربية، تحت فشلها في " السيطرة على النفقات العامة والسيطرة على زيادة الديون، من جانب، وعدم قدرتها عل المحافظة على معدلات النمو الاقتصادي والرفاهية لمواطنيها، من جانب آخر". ضاعف من تداعيات الأزمة وقاد إلى تفاقمها، "الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية المهيمنة على اليونان حكومة وشعباً، فوجدت اليونان نفسها في طاحونة الأزمة بعد أن ربطت مصير اقتصادها الوطني بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي والعالمي، وقبولها بجميع شروط الاتحاد الأوروبي".

فتح هذا الواقع المتردي أبواب الاقتصاد اليوناني على مصراعيها أما المضاربين الذين "استغلوا هذه الأزمة شر استغلال، فسارعوا، وعن قصد ممنهج إلى بيع سنداتها بأبخس الأثمان وبأسعار فائدة فاحشة، كما دفع اليورو ثمنا باهظا إذ هوى بأكثر من 20% مقارنة بأعلى مستوى له على الإطلاق وصار هناك من يتحدث عن احتمال انهياره ربما خلال عقد من الزمن، بل وصل الأمر إلى حد مطالبة اليونان بأن تبيع سيادتها على بعض جزرها".

وبحلول العام 2009، لم يكن أمام الحكومة اليونانية الجديدة إلا الاعتراف "بأن الحكومة السابقة قد زيفت الحسابات القومية. وأن الحكومة الحالية تعاني من عجز في الميزانية بنسبة 13.6 في المائة، وديون تبلغ 115 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي".

وهكذا وجد الاقتصاد اليوناني أحد ضحايا الأزمة الاقتصادية العالمية، وبدأ يخشى من أن يصبح أول كبش فداء يقدم قربانا لمساعدة دول أوروبية أخرى من أزمة محدقة بها في تلك الفترة. وبات الاقتصاد اليوناني، بفضل تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على أسواقه "يعاني من تضخم يصل إلى 40% من الناتج المحلي. ارتفاع في معدلات البطالة بلغت حوالى 21.8%. ترافق ذلك مع تراكم ديون الحكومية اليونانية حتى وصلت إلى نحو 120 في المائة، تزاوجت مع عدم قدرة البنوك اليونانية فيما بعد على الاقتراض بسبب هبوط تصنيف سنداتها صعوبة اقتراض الحكومة من الأسواق بسبب ارتفاع أسعار الفائدة التي يجب أن تدفعها للمقرضين".

تضافر كل ذلك مع ارتفاع شاهق في الديون اليونانية التي بلغت ذروتها فوصلت إلى 350 مليار يورو، وهي غير قادرة على تسديدها. بالإضافة إلى ان بعض هذه الدول شرعت إلى إلغاء نسبة 50 بالمائة من الديون اليونانية، أي حوالي 100 مليار يورو، لكن هذه الموارد المالية تعتبر خسارة لهذه الدول وبالتالي فهي مطالبة بدعم وإعادة رسملة البنوك لتعويض ما تم إلغاؤه من مبالغ.

الغرض من وراء هذا السرد المقتضب لتطورات الأزمة اليونانية، هو تلمس ردة فعل الدول العظمى في منطقة اليورو، فقد سارعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ونظيرها الفرنسي فرانسوا هولاند إلى عقد لقاء في باريس، إثر ظهور نتيجة الاستفتاء اليوناني، وصرحت إثر ذلك اللقاء بأن المنتظر من اليونان، بعد رفض شعبها لخطة الدائنين، هو اقتراحات جدية ومسؤولة وبصورة عاجلة".

وعلى نحو مواز كانت مجموعة اليورو قد أعلنت في بيان صادر عن وزراء مالية دولها أنهم "ينتظرون من السلطات اليونانية أن تعرض اقتراحات جديدة تتعلق بالإصلاحات والاقتطاع في الميزانية، قبل قمة أوروبية تعقد ببروكسل بعد رفض اليونانيين في استفتاء اقتراحات الجهات الدائنة لبلادهم".

وفوق كل هؤلاء نقلت وكالة الأنباء الفرنسية، تصريحا للخبير الاقتصادي في معهد "بروغل" الأوروبي للدراسات نيكولا فيرون، أكد فيه على أنّه "سيتحتم على الدول الأعضاء إعطاء فرصة جديدة للمفاوضات من أجل تجنب كارثة مالية تعرض اليونان للخروج ربما بسرعة كبيرة من منطقة اليورو رغمًا عن إرادتها".

لقد حركت "أوخي" اليونانية مياه هياكل الاقتصاد العالمي الآسنة. وكشفت عن وجه الرأسمالية البشع، وأرغمت دول منطقة اليورو الكبرى على الإنصات لصوتها.

كل ذلك يؤكد أنه ما زال للدول الصغيرة والمتوسطة حيزا لا بأس به في ساحة الصراعات الدولية الاقتصادية، متى ما توفرت لأي من تلك الدول:

1. الإرادة الوطنية

2. الثقة بين الحكومة وشعبها.

تعليق عبر الفيس بوك