هل خُلقنا لنتعارف أم لنتقاتل ونتداعش؟

- لطيفة الحياة-

أصبح الإرهاب السمة الطاغية على عالمنا، إذ حيثما وليت وجهك تجد أحداثاً دامية وصورًا مأساوية تعكس التفنن في القتل والذبح والحرق والتفجير والتنكيل. وفي سياق هذا البؤس الذي نعيشه، أُعزي الإنسانية بدعوة النّاس عامة والمعتقدين في القرآن خاصة إلى تدبر هذه الآية من سورة الحجرات (يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، علها تفتح مداركنا على السلام الذي حجبته عنّا القراءات المتشددة التي تستبيح دماءنا باسم الدين رغبة منها في إشباع رغبتها في التسلط والاستبداد.

نعم أُعزي الإنسانية بهذه الآية، وهي واحدة من النصوص القرآنية التي استوقفتنيمضامينها مستفزة في ذهني ما ورثناه عبر التنشئة الاجتماعية من معتقدات تصبغ واقعنا المعاش. مما أغرقني في التأمل الممزوج بالمساءلة التي أفضت بي إلى الملاحظات التالية:

- وجهت الآية الخطاب للنّاس كافة(يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ) وليس للمسلمين ولا للمؤمنين. مما يفيد أن مضمونها عام، لا يعني فئة دون أخرى ولا لون دون آخر ولا عرق دون آخر ولا جنس دون آخر.

- إنّ فعل "الخَلْقِ" غيره فعل "الجَعْلِ" في لغة القرآن. فبينما يتم الأول من عدم، يحولالثاني الأشياء عبر صيرورة ترقيها من حالة إلى حالة أرقى منها. فقد خلقنا من ذكر وأنثى لكنه صيرنا شعوبًا وقبائل.

- إذا كان "الخَلْقُ" غير "الجَعْلِ" في القرآن، فإن غايتهما واحدة ألا وهي التعارف الذي عبر عنه بمفردة "لِتَعَارَفُوۤاْ" على وزن "لتفاعلوا". ولم يقل "لتحكموا" أو "لتتسلطوا" أو "لتهيمنوا".

- ربط القرآن الاختلاف على مستوى فعلي الخلق والجعل بالتعارف وليس بالتسلط والسيطرة والحكم والهيمنة. أي أنه خلقنا مختلفين (ذكر\أنثى)، كما جعلنا مختلفين (شعوبا\ قبائل) من أجل أن نتفاعل ونتكامل.

- قال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ)، ولم يقل أفضلكم ولا أحسنكم ولا أجملكم ولا أعلمكم ولا أعظمكم ولا أعلاكم ولا أقواكم ولا أغناكم.

- قال (عَندَ ٱللَّهِ)، أي عند خالقنا وخالق هذا الكون بأسره، وليس عندنا ولا عند أحد أخر غيرنا.

- قال (أَتْقَاكُمْ)، أي أنّ أكرمنا عند الله أتقانا. نلاحظ أنه ربط الكرم بالتقوى الذي هو عندي أعلى درجة التعامل الراقي مع مظاهر محيطنا الطبيعي المتنوع والمتعدد والمختلف(بشر، حجر، شجر، مياه، كواكب....)، أي أنّه صفة من صفات الأكرمين الذين يشرفهم عملهم لا نسبهم ولا جاههم ولا مكانتهم الاجتماعية.

ونفهم من هذا كله، أن غاية خلقنا من ذكر وأنثى هي نفسها غاية جعلنا أو تصييرنا شعوبًا وقبائل. أي أنّ الله خلقنا من ذكر وأنثى لنتعارف وليس ليحكم الذكور الإناث أو يحكم الإناث الذكور، كما أنه جعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف لا ليتسلط شعب على شعب آخر أو تهيمن قبيلة على قبيلة أخرى. وما التعارف إلا تفاعل جماعي يفضي إلى السلام بالتعلم والألفة والوئام لا إلى التفاضل والتّنافر والعصبيّة والخصام.

وبالتعارف سنتعرف على عظمة الخالق المتجلية في تعددية خلقه وتنوعه واختلافه، وهو ما يُفارق فعل التصنيع البشري الذي يعتمد النمطية في الإنتاج. فالخالق لا يُريدنا في قالب وشكل ولون واحد (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، أي أنّه لا يُريدنا أرقامًا متشابهة مثل قنينات الماء المعدني أو علب السردين أو قوالب السكر، وإنما متفردين ومتميزين في كل شيء. ولأن هذا الكون لا يقبل التكرار والنسخ، فقد جعل بصمتك مختلفة عن بصمات ملايين البشر من جنسك حتى تبصم تجربتك الوجودية كعلامة على أنك كنت حيًا.

وفي هذا السياق اسمحوا لي أن أقول: إن الله خلقنا مختلفين ومتنوعين ومتعددين، لأنه يريدنا أحياء أحرارا لا عبيدًا تابعين. وإن كل من يشجع الاختلاف ويعمل على إبراز التنوع والتعدد فإنما يعمل على تشجيع الحرية وبعث الحياة في مجتمعاتنا. وإنّ كل من يرفض الاختلاف فإنما يرفض التعددية والتنوع، أي أنه يقمع الحرية ويدعم الموت لا الحياة. وهكذا يظهر الفرق مابين داعم الاختلاف ورافضه في أن الأول متناغم مع غاية الله من خلقنا (لِتَعَارَفُوۤاْ)، بينما يخالفها الثاني الذي يسعى إلى التسلط والتحكم والهيمنة. ولا تنسوا أن الهيمنة لله الخالق فقط، لذلك وردت مفردة "المهيمن" مرة واحدة في القرآن الكريم كسمة من سمات الله عزّ وجلّ في قوله:(هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). وإن كل من يسعى إلى التسلط والهيمنة يسير على خطى إبليس الذي اعتبر النار أفضل من الطين (قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، في حين لو أنّه تريث لفهم أن الاختلاف بين النار والطين ليس مبعثا للتفاضل والتعالي وإنما للتكامل والتفاعل. وهو نهج فرعون الذي تعالى على الجميع (فقال أنا ربكم الأعلى)، مما جعله يرفع رأيه عاليا فوق كل الآراء(قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ). كما أنه وضع عقله وصيا على العقول، لذلك هدد السحرة بالتعذيب لأنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم( قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ).

وختاما أعتقد أن مجتمعاتنا عامة والمغرب خاصة في حاجة إلى أفراد ومسؤولين يسيرون بمؤسساتهم وهيئاتهم وأحزابهم وأسرهم نحو التعارف لا التسلط والهيمنة. نحن اليوم -في ظل ما نعيشه من أحداث وطنية ودولية وعالمية- في حاجة أكثر مما مضى إلى أن نتعارف، ولسنا في حاجة لنتصارع أو نتحارب أو نتقاتل أو أن نتسلط على بعضنا بعض. فلا أحد منّا أفضل من الآخر ولا أقل منه. إننا في عالم حباه الله بطبيعة متنوعة ومختلفة وطقس متنوع، مما أسفر عن تعدد ثقافاته ولهجاته وتقاليده وعاداته. فدعونا جميعاً نستثمر هذا الاختلاف والتنوع من أجل إنسانية الإنسان التي تعلوعلى كل الفوارق والنوازع والتمظهرات. دعونا نجعل هذا البلد (الكون) آمنًا، حتى يعم الأمن والسلام. دعونا ندعوا إلى سبيل ربنا بالتعارف. دعونا نحيا جميعا.

تعليق عبر الفيس بوك