قدام بيتكم وادٍ

عائشة البلوشية

منذ أن انتقلت للسكن في محافظة مسقط بحكم الدراسة والعمل سمعت بـ"القرانقشوه"، وهي مناسبة رمضانية يتجمع فيها الأطفال ويذهبون منشدين "قرانقشوه يو ناس عطونا شوية حلوى"، ويطوفون ببراءة من باب إلى باب يطلبون الحلوى، وتأتي في ليلة النصف من هذا الشهر الكريم، ولكنني لم أعرف أصل هذه العادة أو الهدف منها، وبحكم أنني من وﻻية عبري بمحافظة الظاهرة فنحن ﻻ نعرف هذه المناسبة، ولكننا نتشابه مع بقية المحافظات في ما يعرف بـ"التهلولة"، عندما يجتمع كل الصبية والفتيان مع معلم القرآن في البلدة، بعد أن تدخل العشر الأواخر من شهر رمضان، ويقومون بالتجول بين البيوت، مُعلنين بترانيم روحانية جميلة، قرب دخول أشهر الحج، وأخبرني والدي رزقني الله بره ذات جلسة أنّه كان يجتمع مع فتية العائلة، ويطوفون بين المنازل مُهللين، محاولين تجنب الفريق المنافس من الصبية، ولكنهم ﻻ يتورعون عن الدخول في عراك معهم إذا ما جمعت بينهم الطرق، ويكون عراكًا قوياً باستخدام العصي والخضاري...

إﻻ أنني ﻻبد أن أذكر أننا في بلدتي بالعراقي لدينا شيء مشابه للقرانقشوه، ولكننا نؤديه في شهر شوال، ويُعرف ب"الملميسوه" ويقتصر على الفتيات الصغيرات والأطفال من الذكور، وأصل كلمة الملميسوه جاءت من تلمس الحاجة وطلب العون، لذلك يسمي أجدادنا ذلك الشهر بـ"لماس" بفتح اللام وتشديد الميم، حيث نقوم بعد صلاة المغرب بزيارة منازل الأقارب من الأهل والجيران، مرددين فيما يشبه الإنشاد: "الملميسوه الملميسوه.. نطلب عشاءنا البارحه"، وﻻ يسمح لنا بالابتعاد إلى خارج محيط دائرة الأهل، وتحدد البيوت التي يسمح لنا بزيارتها، فيقوم الجميع بإعطائنا ما يجودون به من أرز أو علب الصلصة أو علب الحليب أو السكر وأحياناً بعض النقود، فنشكرهم بالدعاء لهم: "قدام بيتكم وادي.. جاكم الخير متبادي"، وهو دعاء لهم بوفرة الرزق والخير، أما إذا كانوا بخلاء وأوصدوا بابهم في وجوهنا فكنا بكل براءة الوجود ندعوا عليهم: " قدام بيتكم جرة.. يصبحن عيونكم مزتره"، وهو دعاء طريف ﻻ يقصد منه شيء سوى أننا ندعو عليهم بنوم عميق تنتفخ له عيونهم، وكم كنّا نتعرض لمضايقات الفتيان، عندما يلبدون في الضواحي لإخافتنا بإصدار الأصوات الغريبة، أو القفز المفاجئ أمامنا؛ وبعد تجميع حصيلة ما قمنا بالتماسه، نقوم بإحصاء وتصنيف الغلة، ونضعها لدى أكبر المجموعة سنا، ونخرج في اليوم التالي إلى السيح القريب من المنازل، وهنا أقصد إما "الغبي" غرب المنازل، أو "الظهرة" شرقي المنازل، بحيث نكون في مرمى البصر، وذلك بعد أن نبتاع الدجاج بالمبلغ الذي تمّ تجميعه، ونحمل معنا بقية المتاع من الأطعمة والمعلبات والماء والأدوات للطبخ، ونتفيء ظلال سمرة أو غافة، المهم أن ننأى بأنفسنا مبتعدين عن الأهل ونعتمد على أنفسنا في كل شيء، ثم نبدأ في طهو غداءنا بعد أن نعد المكان ونجمع الحطب، وكم من مرة وبعد الانتهاء من الطبخ نجد أن الدجاج ﻻ يزال نيئاً ومليئًا بالدم وأن الأرز إما مهروسا كالعرسية أو نقرط حباته بين أسناننا، لعدم كفاية الطبخ، فنعود إلى منازلنا ونحن نتضور جوعاً، ولكن الحظ هو عندما تكون بيننا إحدى الفتيات الكبار ممن سمح لها الأهل بالخروج معنا، فتساعدنا في الطهو ومنها نتعلم، ﻷنّه ﻻ يسمح للفتاة بعد سن الحادية عشرة بالمشاركة في هذه المناسبة...

كانت الجدات ﻻ يرتدن المدارس، سوى من حظيت بتعلم القرآن الكريم لدى معلم القرية، وﻻ يجدن المكتبات التي توفر لهن الموسوعات والكتب، ليقرأن مؤلفات جون ديوي أو غيره من خبراء علوم التربية والنفس والاجتماع، أو يطرقن باب الشيخ "جوجل" ليسألن فيجبن، كانت الحياة صعبة جدًا، لذلك كنّ يستنبطن أساليب مبتكرة ليعلمن بناتهن العادات والتقاليد وأساليب الحياة، لذلك فإنّ لهذه العادة مغزى تربوي يهدف إلى تعليم الصغار من البنات الاعتماد على النفس خلال فترة غياب آبائهن وأمهاتهن ﻷداء فريضة الحج، وهي أيضاً لتعليمهن أن مرحلة الطفولة قد ولت وحان وقت تحمل مسؤولية أعمال المنزل المختلفة، والتي يأتي الطبخ على رأس هرمها؛ بيد أنني لم استطع فهم الحكمة من جعل هذه العادة في جنح الظلام، هل لتعليمنا أن المحتاج يجب أن يستتر عندما يسأل حاجته؟ أم ﻷن جناح الليل يظل تحت طياته خبء البيوت وأسرارها، فيستطيع من ﻻ يملك شيئاً أن يغلق بابه في وجوهنا دون أن يعرف عنه الآخرون؟! ربما...

توقيع: "اختفت هذه العادة الجميلة، وأصبحت من الذكريات التي نترنم بها، وكم طمحت ﻷن أرى لها تأريخا من خلال أحد المهرجانات الطلابية في أعيادنا الوطنية".

تعليق عبر الفيس بوك