أوروبا تسعى لإفشال النموذج اليوناني

فهمي الكتوت

لم يعُد حجم الخلاف بين الحكومة اليونانية ومجموعة اليورو من الناحية الموضوعية؛ ذا شأن مالي كبير، بعد إعلان الحكومة اليونانية حزمة إجراءات تقشفية تمس الطبقة الوسطى والعليا في المجتمع اليوناني، وتلامس الطبقة العاملة في بعض جوانبها. وبعد التنازلات الأخيرة التي أعلن عنها رئيس وزراء اليونان -وفقا لما أوردته الفاينانشيال تايمز- فإن تسيبراس مستعد لقبول عرض الدائنين في نهاية الأسبوع، في حال إجراء بعض التعديلات عليه، وهي الإبقاء على تخفيض ممنوح للجزر اليونانية في ضريبة المبيعات، وتأجيل رفع سن التقاعد إلى 67 سنة إلى شهر أكتوبر المقبل.

لكنَّ جَوْهر الخلاف يتمحور حول كَسْر إرادة الشعب اليوناني، وفرض سياسة الاحتكارات الرأسمالية. والخنوع لشروط صندوق النقد الدولي، وإرغام اليونان على الإذعان والاستسلام.. لقد أصبح الجانب السياسي يتقدَّم على الجانب المالي، بمحاولات الترويكا إفشال الحكومة اليسارية في اليونان لسد الطريق أمام عدد من الدول الأوروبية من اتباع النموذج اليوناني. وأصبح واضحا أنَّ بعض الزعماء الأوروبيين يعملون على إسقاط الحكومة اليونانية، بحملها على قبول اتفاق يخالف تفويضها الشعبي، ووضعها أمام خيارات صعبة: إمَّا الخنوع لحزمة الإجراءات، وإمَّا الخروج من مجموعة اليورو والعودة إلى العملة المحلية الدراخما.

وقد أصْدَر صندوق النقد الدولي تقريرا استثنائيا قبل أربعة أيام من استفتاء الأحد، يحمِّل الحكومة اليونانية مسؤولية تفاقم الأزمة؛ فقد اعتبر التقرير أن وضع اليونان المالي ازداد تفاقما نتيجة التغيرات الكبيرة في السياسات الحكومية منذ تولي حزب سيريزا المناهض لسياسات التقشف الأوروبية مقاليد السلطة في اليونان، كما تضمن التقرير تحريضا للدائنين برفض التراجع عن حزمة الإجراءات في إشارته إلى أنَّ البلاد قد تحتاج إلى شطب جزء كبير من ديونها إذا لم تطبق الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة؛ مما يُعتبر تدخلا سافرا للتأثير على الرأي العام اليوناني في التصويت ضد برنامج سيريزا.

... إنَّ تفاقم الأزمة اليونانية ناجمٌ عن السياسات المالية والاقتصادية الانكماشية التي فرضتها ترويكا الدائنين، بفرض الضرائب غير المباشرة وتقليص الإنفاق على الخدمات العامة التي أسهمت بتعميق الازمة، واستمرار حالة الكساد الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والفقر. وفرض سياسة التخاصية والتخلي عن مقومات الدولة لصالح الاحتكارات الرأسمالية، وإخضاع الدولة والمجتمع اليوناني لحزمة من الإجراءات لصالح الطغمة المالية؛ الأمر الذي أدى لتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 25%، ووصل الدين العام اليوناني إلى 180% من الناتج المحلي الإجمالي، كما ازدادت معدلات البطالة بين الشباب إلى نحو 60%.

والمثير للدهشة مُطالبة اليونان بتحقيق فائض بنسبة 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2018. وهي مطالبة بنفس الوقت بفرض سياسات تقشفية صارمة، من زيادة ضريبة القيمة المضافة على قطاعات السياحة -وهو القطاع الرئيسي في اليونان- وتخفيض معاشات التقاعد التي تم خفضها سابقا بنسبة 25%، وهي سياسات انكماشية، لا تسمح بخروج الاقتصاد من ازماته. وقد اعتبر خبراء الاقتصاد هذا الاستهداف إجراء عقابيا سيسفر بالتأكيد عن ركود اقتصادي أعمق؛ فالتصويت بالموافقة على حزمة إجراءات الترويكا في الخامس من يوليو يعني استمرار إملاءات صندوق النقد والمؤسسات الأوروبية، واستمرار حالة الكساد.

علما بأنَّ الانسحاب من مجموعة اليورو ستكون له آثار سلبية على الجميع، وليس على اليونان وحدها؛ فاليونان ستحرم من المساعدات الأوروبية، لكن انسحابها يُبشِّر بتفكك المجموعة ويعتبر فشلا ذريعا للسياسات الاقتصادية الأوروبية، مما يفاقم ازماتها، خاصة وأنَّ مصيرَ الديون الأوروبية على اليونان سيبقى بالمجهول، والتي تبلغ حوالي 350 مليار يورو؛ الأمر الذي يضعف الثقة بسندات عدد من دول المجموعة مثل إسبانيا والبرتغال وأيرلندا وقبرص. كما يترك آثارا سلبية على أسواق المال عامة في أوروبا.

أما على الصعيد الداخلي، فقد تباينتْ مواقف الأحزاب السياسية المؤثرة على الشارع اليوناني بين مؤيد ومعارض لشروط الترويكا الأوروبية، فبينما عبَّر الحزب الشيوعي اليوناني عن رفضه لأي إجراءات تقشفية مطالبا الحكومة بالتراجع عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومات السابقة، وفك الارتباط بالاتحاد الأوروبي وإلغاء جميع المذكرات. في حين تصطف المعارضة اليمينية في حزب الجمهورية الجديدة، وحزب الباسوك الاشتراكي الديمقراطي، اللذيْن يتحملان مسؤولية تفاقم الأزمة أثناء وجودهم بالسلطة حتى يناير 2015، ومعهما حزب النهر "الوسطي" لصالح القبول بشروط الترويكا للبقاء في الاتحاد الأوروبي.

وتقف أوساط متأرجحة بين القبول بالشروط المجحفة التي تفرضها الترويكا، وما يعنيه ذلك من التوسع في السياسات التقشفية، وزيادة الفقر والإملاق، وبين الرفض، وما يعنيه من سلوك طريق وعر مليء بالتضحيات وتحمل آثار العقوبات التي ستفرضها الاحتكارات الرأسمالية على بلد صغير من وقف المساعدات، والخضوع لقانون الاستبداد في عصر العولمة الرأسمالية، والاعتماد على الذات، وبدعم متواضع من الدول الصاعدة، تجربة تحمل كثيرًا من الصعوبات لكنها تتطلب إرادة سياسية وتضحيات محتمله، لإنقاذ الاقتصاد والشعب اليوناني من طواغيت رأس المال وشق طريق الانعتاق، التي ستلحق به دول أوروبية أخرى.

تعليق عبر الفيس بوك