أ/ حمد بن عبد الله بن محمد الحــــوسني*
أيها الأعزاء، بينا في الحلقة "العاشرة" من هذه السلسلة المباركة خطورة انتشار مرض (سوء الظن، والتشكيك في نيات الآخرين) في مجتمعات المسلمين.
كما ذكرنا أنه لما كان العنوان العام لسلسلة حديثنا (البلسم الشافي) الذي نعني به (القرآن الكريم) فإنه يجدر بنا أن نبدأ في تلمس الدواء الناجع لهذه المشكلة من هذا النور الوضاء؛ كونه أول مصادر التشريع الإسلامي، الذي أنزله الله - تعالى- وفيه حل لكل مشكلة، ودواء لكل معضلة.
وسنذكر بعض ما جاء في كتاب (في ظلال القرآن) لسيد قطب، والذي ذكره عند حديثه حول سورة الحجرات؛ وخصوصا عند قول الله -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).
قال عند حديثه عن المعنى العام لسورة الحجرات: [وهو عالم -أي العالم الذي جاءت سورة الحجرات لتحدد وتضع معالمه- نظيف المشاعر، مكفول الحرمات، مصون الغيبة والحضرة، لا يؤخذ فيه أحد بظنة، ولا تتبع فيه العورات، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)].
ويقول عند شرحه لتلك الآية: [«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ».
فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم، في أسلوب مؤثر عجيب.
وتبدأ على نسق السورة بذلك النداء الحبيب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»، ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك. وتعلل هذا الأمر: «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ». وما دام النهي منصبا على أكثر الظن، والقاعدة أن بعض الظن إثم، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيّء أصلا، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثما! بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيئ، فيقع في الإثم، ويدعه نقيا بريئا من الهواجس والشكوك، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع. وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون! ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب. بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل، وسياجا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف، فلا يؤخذون بظنة، ولا يحاكمون بريبة، ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم. بل لا يصح أن يكون أساسا للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا ظننت فلا تحقق». ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم، وحرياتهم، واعتبارهم، حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه. ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم! فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا، وحققه في واقع الحياة، بعد أن حققه في واقع الضمير؟].
فما أجدرنا نحن المسلمين أن نراعي هذا الأمر فيما بيننا، وألا ندع للشيطان مدخلا، وأن نتعامل بصفاء نفس ونقاء قلب؛ فتأتلف أرواحنا، وتقوى علاقاتنا، ويجتمع شملنا، وتعود ريحنا، ويهابنا عدونا.
* أمين الصندوق بالجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم (قيد التأسيس)