كسل النماذج

ناصر مُحمَّد

يتميَّز الفكرُ العربيُّ بكثرة مشاريعه الإصلاحية.. هذه المشاريع التي تتفاوت بين العمق والسطحية، إلا أنها تتفق في شيء واحد؛ هو: الخروج على التاريخ، ومن ثم على الواقع.

ويُشير ستيفن هوكنج في كتابه "التصميم العظيم"، إلى أنَّ الإنسان يفكر من خلال النموذج، فبُدون هذا النموذج لن يستطيع أن يكوّن فكرة عن الواقع. ولكن تبدأ المشكلة إذا كان هذا النموذج يعزل المتغيرات الأخرى في بنائه، خوفا من تصدعه وانهياره بغض النظر عن حقيقته! ولا يختلف كثيرٌ من المفكرين العرب في مشاريعهم عن فكرة هذا النموذج المتصلّب، فهم يضعون الواقع في نماذجهم التي تطرد الحاضر، وتشكك في خير الإنسان أمام شرّه الذي لن يُروَّض سوى باتباع ما تطرحه هذه النماذج من حلول!

وحتى لا نخرج من الحاضر، هذا الحاضر الذي بات متخما بالأنفاس الطائفية وهلوسة الانتماءات، فإن أقرب المفكرين لهذا الزمن هم من ينبغي أن يلقى عليهم الضوء، فهؤلاء تميزوا عن غيرهم في نقد التاريخ بالعمق والشجاعة، هؤلاء من يسمون بنقاد العقل العربي! فمنهم، مثل "محمد أركون"، تناول التاريخ الإسلامي، دون العصر الأول الذهبي، بمبضع النقد وإبراز عنصر الأنسنة في بعض الشخصيات التاريخية مثل "مسكويه"، راغبا بذلك محاكاة عصر النهضة الأوروبية التي نشط فيها المذهب الإنساني في نهاية العصر الوسيط ممهدا للقرون الحديثة العقلانية، ومبعدا اسبينوزا وفولتير من النموذج لأنهما سيواجهان النص المقدس بضراوة. أما المغربي "محمد عابد الجابري"، فاستبعد من نموذجه التيار السنّي الذي نشط منذ القرن الثالث الهجري وأدى إلى إقالة العقل ونادى بتنشيط النظرية المقاصدية في السياسة. وقام بعده المفكر السوري "جورج طرابيشي" الذي سدّ هذه الفجوة العظيمة ولكن بطرح نموذج يتمثل في ضرورة قيام ثورة لاهوتية ومن ثم ثورة عقلانية، وأن العربة لا تتقدم أمام الحصان في جدليته عن العلمانية والديموقراطية. وهناك مفكرون يقوم الإصلاح عندهم عن طريق التأويل وإعادة قراءة النص بطريقة أكثر انفتاحا مثل "نصر حامد أبو زيد". ولـ"أدونيس" شرطه المعروف في الإصلاح وهو "الشعر الحداثي".

أغلب هؤلاء المفكرين، أو المثقفين في حالتهم الاحتجاجية، يطردون الحاضر عن وعيهم في مشاريعهم، فكثيرٌ من الحقائق تغيب عن دروبهم وعن الزمن الذي يمضي إلى الأمام ولا يرجع إلى الخلف، فهم متشائمون من الشعوب وقدرتها على الحكم؛ وذلك وفقا لنماذجهم التي تتطلب شروطا ومقدمات أرسطية لكي تعطى للشعوب حريتها. ولكن يتم التغاضي، ربما دون وعي، عن تلك الأنظمة المتسلطة التي لطالما تذرعت أيضا بقطيعية الشعوب وبماسونية الديمقراطية التي يراد بالعالم العربي التسمم بها. وبسبب سجن هذه النماذج الكسولة لمفكريها جعلت من المفكرين أنفسهم يلعبون دور الشرطي تطوعا! بل وينسفون مبدأ الحرية خوفا من الحرية ذاتها. وينظرون إلى الحاضر على أنه لعنة تنتظر أن تُبارك بمجرد أن يكون هذا الحاضر موضوعا وفق النموذج المعد له.

والغريب أن مفكرينا يعطون للغرب نصيبه وحقه من تجربته التاريخية وصراعاته الضرورية، بينما ينكرون ذلك على الشعوب العربية وكأنها جاهلة بالميلاد! يدخلون الغرب في التاريخ ويخرجون العقل العربي من التاريخ حين يبنون نماذجهم! ويهللون مع صانعي الثورة الفرنسية من الطبقات الشعبية ويفزعون من الطبقات المسحوقة الصانعة لثورة "الربيع العربي"، بل إن الربيع العربي صار نكتة كثير من المثقفين لأنه ليس، مثل مراجعهم، وفقا للنموذج المفترض.

ربما تكمن الإشكالية في الخلط بين المفكر الذي يرى إلى الفكر وفقا لنموذج لا ينكر دقته، وبين المثقف الذي لا يعير النماذج أهمية إذا كانت تسلبه من حاضره ومن وظيفته الاحتجاجية الدائمة، فلا يهم أمام الطغيان سوى الاحتجاج عليه، وقد أوضح الكاتب اللبناني أمين معلوف في "اختلال العالم" هذه المعضلة حين قال: "إن الشعوب هي التي تخلق دينها وليس الدين الذي يخلق الشعوب". وهنا يعطي للحاضر الدور الأكبر في قلب المعادلة الفرويدية التي تجعل من الماضي هو الملاذ والمحدد الدائم لكل شيء! ويعطي أملا في أن تغيّر الأشياء ليس دائما وفق النماذج المعدة لها تاريخيا، وهكذا هو الحال أبلج في البلدان شرق الآسيوية مثل الصين واليابان وسنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية. فهي، في نصف قرن، وبسبب التقاء الأنظمة مع شعوبها، تحدّت التاريخ والنماذج، فأصبحت تبزّ غيرها في التحضر والتمدن والرقي.

تعليق عبر الفيس بوك