المقهى العربي (2)

من صالون للحوارات إلى سوق للصفقات

فؤاد أبو حجلة

أشرت في المقالة السابقة إلى بعض جوانب الفعل السياسي للمقهى العربي وعرضت نماذج قليلة من المقاهي المعروفة بدورها السياسي في المشرق العربي، دون تعمّد لإغفال شبيهاتها في المغرب، ولكن لجهل بها وضعف معرفي يعاني منه المشارقة في ما يتعلق بأشقائهم على الطرف الآخر للمتوسط.

وإذ أستأنف الكتابة اليوم عن المقهى العربي ودوره الإبداعي في الحياة الأدبية فإنني أعترف بأنني أهرب إلى المقهى من واقع عربي صعب وكريه، وأكتب عن المقهى حتى أتجنب الكتابة عن الدواعش وأعدائهم.. وكلهم جهلة ورجعيون وظلاميون، فلولا ظلام الرجعيات القمعية لما حلت عتمة الأصوليات الإرهابية.

أعود إلى المقهى العربي لأستذكر كيف كانت المقاهي في العواصم العربية منتديات ثقافية يؤمها الأدباء المبدعون ويطرحون فيها رؤاهم ويدافعون عن ميولهم ومدارسهم الإبداعيّة، ويترجمون حواراتهم في منتج أدبي يصل المتلقي في كتاب أو مقالة صحفية أو عرض مسرحي أو فيلم سينمائي يحترم الذائقة البصرية للمشاهد مثلما يحترم عقله.

هكذا كان حال مقاهي كثيرة تسترخي على ضفاف الأنهار في القاهرة وبغداد، وعلى شواطيء البحار في تونس وطنجة وأغادير وبيروت، وتلوذ بدفء المدينة في أزقة القدس ودمشق وعمّان.

وقد تحول بعض هذه المقاهي إلى صالونات ثقافية لها روادها الدائمون من الأدباء البارزين في بلادهم، وهم أيضا لهم مريدوهم من المشتغلين في الأدب والفن.

وإذا كانت مقاهي مثل "ريش" في القاهرة، و"هافانا" في دمشق و"الهورس شو" في بيروت مقرات دائمة لكبار الكتاب والشعراء العرب، فإن مقاهي أخرى جذبت أعدادًا كبيرة من هواة الأدب وبعض محترفيه من أبناء الجيل الثاني بعد نجوم الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

كنت واحدًا من هؤلاء، وقد خبرت في المقهى جدوى التفكير الجدلي، وانحزت إلى الحداثة كحالة وعي وليس مجرد شكل للقصيدة.

في المقهى التقيت وحاورت وصادقت الكثيرين من أصحاب أسماء معروفة في الحياة الثقافية العربية، فعرفت في مقهى "الفينيق" في عمان الشاعر العراقي الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي، والأستاذ الفلسطيني الجليل الراحل محمد خالد البطراوي صاحب الرؤية النقدية التجديدية للعقل العربي، والصديق الشاعر والكاتب المبدع خيري منصور الذي كان ولا يزال من أكثر كتاب العربية إدهاشًا وتأثيرًا حسيًا وذهنيًا على القارئ، كما تعرّفت على الصديق الروائي جمال ناجي والصديق الناقد الدكتور فخري صالح والصديقة القاصة بسمة النسور والشاعرة زليخة أبو ريشة والصديقة الكاتبة رحاب أبو هوشر. وفي مقهى "عمون" التقيت الروائي الراحل مؤنس الرزاز، والشاعر الصديق ماجد المجالي، والقاص الراحل جمال أبو حمدان.

لكن التجربة لا تخلو من النكوص ومن الصدمة، فقد تحوّل المقهى في بداية حرب الخليج الثانية إلى ساحة مواجهة بين أصحاب المواقف السياسية المتصارعة، وصارت الحوارات مناسبات لاستعراض المواقف المحسوبة التي تتحول لاحقا إلى فواتير مالية.

كنت مع العراق، وفي الصف العربي المعارض للعبث الأمريكي، وكنت أعبّر عن موقفي في مقالاتي المنشورة، وقد شعرت بأنني أنتمي إلى الأغلبية في الشارع وفي الوسطين الإعلامي والثقافي.

وعندما بدأت الصواريخ العراقية تسقط على تل أبيب علت الأصوات في الشارع الأردني لتدين العرب المتحالفين مع أمريكا ضد العراق، وتزايدت أعداد المتطوعين للقتال دفاعًا عن بغداد.

كان المزاج حادًا جدًا في المقهى، وبلغ الخلاف بين بعض الرواد حد القطيعة وتجنب تبادل السلام. لم يزعجني الأمر لأنني كنت مقتنعًا بصواب اصطفافي مع العراق ضد الأمريكان وحلفائهم العرب.

وكنت أعرف أنّ صفقات تتم في المقهى وخارجه لشراء المواقف، لكنني لم أعرف أنني مستهدف بهذه الصفقات المشبوهة إلا عندما جاء إلى طاولتي في المقهى صحفي هامشي وفي يده رزمة من الأوراق المطبوعة عرفت لاحقا أنّها مسودة كتاب يمجد زعيمًا عربيًا وتبحث سفارة بلاده عن اسم مؤلف لهذا الحشو من الأكاذيب.

عرض عليّ الصحفي وضع اسمي على الكتاب مقابل مبلغ كبير من الدولارات.. بالطبع رفضت العرض بأدب جم وطردت الصحفي من الطاولة ومن المقهى مودعًا إيّاه بألفاظ لا يمكن كتابتها احتراما للقارئ الكريم.. ثم صدر الكتاب باسم صحفي متقدم في السن ومتأخر في الوعي.

كان هناك آخرون ممن تحضر أسماؤهم في المقهى ولكنهم كانوا مقلين في الخروج من بيوتهم، ومنهم صديقاي المبدعان الراحلان بدر عبد الحق ومحمد طمليه.

كان المقهى في ذلك الوقت منتدى ومكتبة في آن، وكان يندر أن يدخل أحد من باب المقهى دون أن يكون في يده كتاب أو مجموعة من الكتب. واعترف أنني قرأت عشرات الكتب التي سطوت عليها من الأصدقاء في المقهى، وربما كانت هذه "البلطجة" ضرورية لكاتب لا يملك ما يكفي من المال لشراء الإصدارات الجديدة.

كان المقهى مختلفا، وكانت القهوة تبرد في الفناجين لكنها تُشرب حتى آخر قطرة، ولم يكن هناك من يعتبر المقهى مجرد مكان للقاء عاطفي.

تغيرت حياتنا وتغير شكل ومضمون المقهى العربي ليصير مجرد "مصلحة".

تعليق عبر الفيس بوك