ضرورة دراسة ظاهرة ازدياد العنف والتكفير

عبدالله العليان

ما حَدَث منذ عدة أيام في الكويت وتونس، وقبلهما في المملكة العربية السعودية، من تفجيرات إرهابية في بيوت الله، وقتل المسلمين وهم ساجدين لله في وقت الصلاة، لهو أمر خطير؛ بمعنى أنَّ التطرف والتكفير يزدادان، رغم هزائمه العسكرية منذ عقود، وهذا يستدعي إستراتيجية جديدة لا تعتمد على القوة العسكرية وحدها؛ فالفكر جدا خطير؛ لذلك لابد من تجفيف منابع التكفير وغلق قنوات التحريض وخطاب الكراهية من كل الأطراف في الساحة الإعلامية الإسلامية.

لا شكَّ أنَّ ظاهرة التطرف ظاهرة عالمية، وما يستتبعها من إفرازات أخرى، العنف والإرهاب، أصبحتْ تؤرِّق الإنسانية بتلك من حيث الأفكار والأساليب التي تستخدمها، ومنها ظاهرة التكفير عند المسلمين، واستخدام العنف لفرض أفكارهم على الآخرين، صحيح أنَّ الغلو والتكفير والعنف، أسبابه عديدة، فكرية وسياسية، واجتماعيا، وأسرية، ويرى البعض أنَّ هناك تقصيرا من جانب بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين، في نشر وإبراز الرؤية الإسلامية الصحيح، والتعاطي الجدي مع ظاهرة الغلو والتطرف في فهم الدين القويم؛ فالتطرف والتكفير ظاهرة ليست مع "داعش" و"النصرة" و"أنصار الشريعة" فحسب، بل هو ظهر منذ عقود طويلة بالنسبة لعصرنا الراهن، وعندما ظهرت جماعات العنف السياسي في مصر منذ عدة عقود وقاموا بقتل واغتيال الكثير من السياسيين تحت يافطة إقامة حكم الله في الأرض.

ولا شك أنَّ ظاهرة الإرهاب والتطرف ظاهرة مركبة ومعقدة. ومن الأنصاف أن تكون النظرة إليها شاملة ومتوازنة، ولا تقف عند عامل واحد فقط، ونغضُّ الطرفَ عن الأسباب الأخرى التي ربما تكون هي العامل الحاسم في هذه المشكلة أو الظاهرة التي تجتاح العالم كله، وليس عالمنا العربي والإسلامي فقط.

فالبعض يرجع قضية الإرهاب والتطرف إلى الجهل وقلة العلم والفهم بأمور الدين والدنيا، والبعض الآخر أيضا يراها نتيجة من نتائج الفقر والبطالة في العديد من المجتمعات العربية، والبعض الآخر أيضا يراها نتيجة من نتائج القمع السياسي والاستبداد وغياب الحرية والديمقراطية، ويراها آخرون مشكلة نفسية واجتماعية وأسرية...إلخ. والذي يدعو إلى الأسف أنَّ مصطلح "الإرهاب" لا يزال ورقة يتلاعب بها الكثيرون ويتقاذفون بها كالكرة فيما بينهم، وكل يصم الآخر بالإرهاب وكل مشكلة داخلية يعانيها بلد ما ترفع التهمة الجاهزة على البعض الآخر بالإرهاب، وبدلاً من اتخاذ الوسائل السلمية والقوانين المرعية، وحقوق الإنسان لحل هذه المشكلات -والتي تختلف من بلد إلى الآخر- فإنَّ شعار الإرهاب بات الآن سيفاً مسلطاً بلا معايير دقيقة لتقييده، وهذه إشكالية ربما تساعد على ازدهار الإرهاب لا في استئصاله. ورغم أنَّ الإرهاب قضية عالمية إلا أنَّه بقي خارج دائرة الاتفاق لجهة تعريفه، رغم ما تضمنته قواميس اللغة وكتابات الفقهاء من اجتهادات للتعبير عن الظاهرة، لكنها لم تفلح جميعها في وضع ضوابط ومعايير محددة للفصل بين الفعل الإرهابي وما سواه؛ الأمر الذي أدَّى حتى بأولئك المهتمين بدراسة هذه الظاهرة، إلى مواصلة بحوثهم ودراساتهم دون الاكتراث بتعريفها. وعدم الاتفاق على تعريف محدد للإرهاب نابع بالدرجة الأولى من تسييسه، ووضع الاعتبارات القانونية خارج الحسبان، رغم هويته القانونية في الأساس، وقد أدَّى ذلك بدوره إلى اختلاط الأوراق وتباعد المواقف، فلم يعد مستغرباً أن نشاهد حكومات، أو جماعات ترتكب حماقات وتقوم بأعمال الإبادة البشعة بحق الإنسان، باسم مكافحة الإرهاب، ولم يعد خافياً أن يُستخدم الإرهاب جسراً لتحقيق أهداف ومكاسب شخصية أو حزبية أو قومية أو إسلامية.

وليس أقوى داعم للإرهاب وثقافة العنف مثل تجاهل أسبابه الكامنة والموضوعية لقيامه وانتشاره في المجتمعات الحديثة، خاصة في عصر الثورة المعلوماتية والعولمة في جانبها السلبي، فإنَّ التطرف والإرهاب سوف يُعشش ويقتات على هذه السلبيات التي تزداد بازدياد أنظمته العالمية الجائزة والمجحفة في تعاملها الاقتصادي وفق النظرية الدار ونية البقاء للأقوى "بدل البقاء للأصلح"! أيضاً من السلبيات التي تسهم في انتعاش ثقافة العنف الازدواجية والمعايير في السياسة الدولية، والكيل بمكيالين عند التعاطي معها، والتي أصبحت ظاهرة تؤرق العالم، والشعور بالظلم إزاء بعض القضايا التي باتت تستعصي على الهضم والتقبل، مثل معاناة الشعبين والفلسطيني العراقي، والأزمة السورة التي سبَّبت كوارث للشعب السوري منذ أربعة أعوام، والكوارث الإنسانية التي يلاقيها هذه الشعوب؛ فالتعاطي مع الازدواجية في الكثير من القضايا، أثمر الكثير من الكراهية غير المبررة في بعض الأحيان، ومنها الإرهاب والتطرف والتكفير والغلو، الذي تعاني منه الإنسانية؛ لذلك فإنَّ أفضلَ الخطوات لوقف هذا الإرهاب واستئصاله، هو البحث الجاد عن أسبابه وإيجاد المخارج المنطقية والعقلانية لتجفيف منابعه بالحكمة أولاً، ثم بالتعاطي العادل مع مسبباته بالأسلوب المناسب الذي ينهي كامل جذوره الفكرية والعسكرية.

... إنَّ للتكفير مخاطر عديدة ومحاذير جمة، كما يشير الشيخ حسن الخشن، "وانعكاسات سلبية على المكفِّر والمكفَّر؛ الأمر الذي يستدعي التروي في الإقدام عليه والخوض فيه؛ فمضافاً إلى أن إخراج شخص من الدين ورميه بالكفر هو معصية كبيرة وذنب عظيم لا يرتكبه المسلم الذي يريد الاحتياط لدينه، فإنَّ له مضاعفات عديدة على الشخص المكفر وعائلته وذويه، لأنه -أعني بالتكفير- يستتبع الحكم بارتداده وإهدار دمه وماله والتفريق بينه وبين زوجته، ومعاملته معاملة الكفار لجهة الميراث والزواج...وغيرهما بما في ذلك ترك الصلاة عليه بعد موته ومنع دفنه في مقابر المسلمين؛ وذلك سيؤدي إلى محاصرته وعزله نفسيًّا واجتماعيًّا ونبذه من قبل المسلمين وترك التعامل معه، وتزداد عزلته إذا قلنا بنجاسته وحرمة ذبائحه وترك مؤاكلته كما عليه جمع من فقهاء المسلمين. وحقيقة الأمر -كما يشير الباحث الخشن- أنَّ للتكفير أسباباً متعددة؛ منها ما هو ديني، ومنها ما هو نفسي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو اقتصادي أو سياسي، وقد تتداخل هذه الأسباب وتفرز شخصيات تكفيرية صدامية، وليس من الصحيح إرجاع هذه الظاهرة إلى سبب بعينه؛ لأنَّ في ذلك مجافاة للحقيقة، كان أن الجهل على الدوام واحداً من أهم العوامل وراء انتشار العداوة والبغضاء بين بني البشر؛ لأنَّ الناس أعداء ما جهلوا؛ لذا فمن الطبيعي أن تكون قلة المعرفة بتعاليم الدين وقيمه والنظرة السطحية إليه، من أسباب نشوء وانتشار ظاهرة التكفير، وهذا ما يجعل صفة الجهالة أو السطحية من السمات الملازمة للحركات التكفيرية. إنَّ التكفيريين كما يقول: "ينظرون إلى الآخر بمنظار قاتم، وعدسة سوداء يتحكم بها سوء الظن؛ لهذا فإنَّ الآخر عندهم أسود قاتم باستمرار، لا يملك من الحق شيئاً وليس عند نقطة ضوء أو إثارة من هدى، ولو أنهم شاهدوا إنساناً مسلماً على غير مذهبهم يؤدي فعلا عبادياً معيناً له محمل صحيح ومقبول في دين الله، وله أيضاً محمل فاسد -كالسجود أمام ولي من الأولياء الذي يحتمل أن يكون سجوداً لله أو يكون سجوداً لهذا الولي- فإنهم يسارعون إلى توجيه الاتهام إليه وحمله على المحمل الفاسد؛ فيكفِّرونه ويرمونه بالشرك أو الإلحاد، وإذا رأوه يقوم بعمل يحتمل الحلية ويحتمل الحرمة -كمن يتناول الطعام أو الماء في شهر رمضان، ويحتمل أن يكون متعمداً للإفطار أو معذوراً في ذلك لمرض أو سفر- فإنهم يحملونه على الأسوأ ويحكمون بعصيانه وفسقه، وإذا تفوَّه بكلمة تحتمل معنى صحيحاً وآخراً باطلاً حاكموه على أساس المعنى الباطل، ضاربين بذلك كل التعاليم الإسلامية الداعية إلى حسن الظن وحمله إلى الأحسن وتصديق قوله وأخذه بالظواهر، دون النوايا والسرائر التي لا يعلمها إلا الله سبحانه، ومحاولة التماس عذر له، عملاً بقول رسول الله (ص): "اطلب لأخيك عذرا، فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً". وإذا أردنا الدقة في التعبير حتى لا يُساء فهم ما ذكرنا، لقلنا: إنَّ المشكلة لا تكمن في التراث نفسه بل في تعاملنا معه ونظرتنا التقديسية له؛ فتراثنا الإسلامي رغم اعتزازنا به، ورغم أنه أنقى إرث إنساني ورثته أمة من الأمم، لكن مع ذلك فإنّ فيه الغث إلى جانب السمين والسقيم بجوار الصحيح والمبين والمحكم إلى جانب المجمل والمضطرب. ومن هنا، انبثقتْ الحاجة إلى غربلته ونقده وتصفيته، وعملية الغربلة هذه هي جهدنا نحن بل هي جزء من جهادنا ومسؤوليتنا إزاءه؛ لأنَّ التراث في نفسه صامت لا يُفصح ولا يُعلن لنا عن صحيحه وضعيفة؛ فهذه الوظيفة -أعني الغربلة- هي من مسؤولياتنا نحن المنتمين لهذا التراث، إنَّ مُحاكمة وغربلة التراث الصامت هي وظيفة الإنسان الناطق.

فالقاعدة الأساس التي يبني الإسلام العلاقة الداخلية بين أبنائه على ضوئها، بما يكفل وحدتهم وتكاتفهم ويضمن تحقيق الأمن الاجتماعي وإزالة كل عوامل التوتر، هي قاعدة الأخوّة الإيمانية بما تعنيه من أن المسلم ليس مجرد صديق أو رفيق أو نظير للمسلم الآخر، بل هو قبل ذلك أخوه "إنما المؤمنون أخوةٌ فأصلحوا بين أخَوَيكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون" (الحجرات:10)، والأخوة ليست مجرد شعار يُرفع أو نشيد يُتلى، إنها نظام متكامل يتألف من مجموعة من الحقوق والواجبات، لا بدّ من ترجمتها عملياً من خلال التكافل والتعاون بين الأخوة، والحماية والنصرة لبعضهم البعض ودفع الأذى وكف اللسان عن الآخر، إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات التي أكدت عليها النصوص القرآنية والنبوية.

تعليق عبر الفيس بوك