إخوة يُوسف...!

نائب ربيع بيت مبروك

تنطلقُ الحروب من أوضاع وأسباب مُستفزة، وتترك آثارا سلبية، وتخلِّف بعد ذلك كوارث وخلافات ونزعة جاهلية وعصبية، وانفعالًا حادًّا يؤثر -شكلا ونوعا وكما وكيفا- في المجتمعات، الشيءُ الذى يزيد من الأحوال السيئة العديدة والمتنوعة، ويكثر الخوف والقلق والشتات، ويخلق أنواعًا متعددة من الأزمات المعقدة؛ مما يزيد ساحة العنف اضطرابا، ويجعلها حاضنة سيئة للخراب والإرهاب.

فالقتل لايخلق نموذجًا حسنًا للحياة، ناهيك عن أضراره وكوارثه الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية؛ فكيف تنشأ حياة آمنة وتربية سليمة فى مثل هذه المجتمعات، ونار الحرب المدمِّرة تتأجَّج وتشتعل؟ كيف تُنتج هذه البيئات فكرًا وثقافة وعلمًا وإبداعًا وهي تستقطب الشرَّ من هنا وهناك؟ كيف تستطيع أن تبنى حاضرا آمنا ومسقبلا عظيما وقد تحولت المدنية إلى غابة، والحياة الى مستنقعات وحلبة للصراع والاقتتال؟! كيف تستطيع أن تُحيي حضارة وتؤسس منهجية وذهنية وأنماطًا، سلوكها لا يُحقِّق الطمأنينة أو الاستقرار؟

... إنَّ إنتاجَ الحروب ليس كإنتاج الصناعة والعلم، وشتان بين هذا وذاك؛ فالحرب تنتج شرًّا وكفى بالشرِّ أن يكون دليلًا على الأذى، ومادة دسمة من مواد التخلف والجهل.. فالحروب لا تبني أخلاقا ولا تملك مبادئ إلا فى إطار محدود أو غاية نبيلة وهدف يستوعب القيم الإنسانية؛ ومن أجل ذلك جاء الإسلام ليبني للمسلمين طريقا آخر غير طريق الشر، وسلوكًا مليئًا بأدوات الخير ليكون المجتمع المسلم من أفضل المجتمعات عملا وفعلا وصفاتا وأخلاقا؛ لذلك قال الله سبحانه وتعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله". وعندما يقول الله سبحانه وتعالى ذلك، فهو يُؤكد أنَّ أمة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- هي خير الأمم؛ وذلك لعلم الله سبحانه وتعالى بقوة الخير الذي تتمتع به أمة الإسلام، وبالنور والهدى الذى يزن بالقيم الإنسانية والخير الذى تبحثُ عنه الأمة اليوم ليست الأشياء المادية، أو المبانى العمرانية أو المناصب والتكالب على الدنيا، والقفز فوق حدود الله، وإنما الاتجاه المباشر لما تقتضيه عبادة الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذه العبادة تكليفٌ ميسر أنيط بحملها الإنسان المسلم، وما وقع عليه من أمانة وتكاليف.

والعجيب أنَّ الإنسان يقبل الخضوع والانصياع لما تقتضيه حاجته فى هذه الدنيا ومصالحه؛ فتراه مُطيعا يقبل ويتقبل ما يملى عليه كيفما كانت التكاليف، وينفذ الأمرالمكلف به دون شعور بالكلل أو إحساس بالملل؛ لذلك الدين لا يُقيِّم الإنسان من خلال أدوات المكر والخداع والمجاملات أو التقمص الشكلي، ولا يقيم وزنا للمظاهر والرياء.. الإسلام لا يريد أن ينشئ فراغا يملؤه من لا يقيمون للدين هوية أوعقيدة طابعها وذوقها ومذاقها الغش والنفاق. وإنَّما الذي يريده الإسلام هو أنْ ينشأ هذا الدين لمجتمع إسلامي عظيم تكون فيه التربية نموذجًا من نماذج الخلق والقيم وقبسًا من قبسه ونورًا من نوره ومنبعًا من منابع الخير الذى تفتقد وتفتقر إليه اليوم؛ فالحروب التى تعج بها الأوطان المسلمة قد أنشأت قيما ومبادئ ابتعدت بها كثيرا عن دورها الأساسي والريادي المنوطة به أصلا، وأنشأت مجتمعات متفرقة متباغضة، وأوجدت بعد ذلك فراغا وخلافا ملأته ساحة المتربصين بها، الإسلام لا يكره أبدا أن يأخذ الإنسان المسلم نصيبَه من هذه الدنيا ولا يريده إنسانا جافا غليظ القلب، ولا يريده أن يأخذ شيئا من متاع الحياة الدنيا، وإنما يريده أن يحسن التصرف والعمل والسلوك، وأن تكون العبادة لله -سبحانه وتعالى واحدة من أعظم أخلاقه فى القول والفعل والجهد.

إنَّ القرآن الكريم الذى بين أيدينا فيه أنباء الغيب والماضى والحاضر والمستقبل، ولنا فى كل آية عبرة، ولنا فى كل سورة عبرة، ومن يتأمل القرآن الكريم يجد فيه روحا وأنفاسا ومعاني عميقة ومن يبحث عن الأسئلة، ولديه دوافع إيمانية ونزعة الشوق لمعرفة الخواطر والظلال القرآنية، ففي سورة يوسف: "لقد كان فى يوسف وإخوته آيات للسائلين".. هذه السورة تتحدث بشكل صريح وواضح عن آفة من آفات الدنيا وشهوة من أسوأ شهواتها ألا وهو "الحسد"، وقد لا يصدِّق أحدٌ من الناس أن يبلغ الحسد والتباغض مبلغه بين الإخوة.. وأي إخوة، إنهم أبناء سيدنا يعقوب عليه السلام، "حدثٌ" جاوز العقل والإدراك تماما كما حدث مع ابني آدم عليه السلام قابيل وهابيل، ولست هنا مخوَّلًا بالدخول وتفاصيل هذاالنوع العظيم من القصص القرآني، ولكن الإنسان الذى يلامس القرآن وجدانه وإحساسه، فلن يبخل الله سبحانه وتعالى عليه بفيض من نوره يشعل به وجدان الإيمان ليثبت به روحه ويقينه؛ وذلك ما حدث لسيدنا يوسف ورحلته التى واجه فيها تحديات إخوته وكيدهم له وكيد امراة العزيز والنسوة ودخوله السجن. وبعد ذلك، تأويل الرؤيا للملك، وأحداث كثيرة حدثت لسيدنا يوسف لا يتسع لها الذكر؛ لينتهى بسيدنا يوسف -عليه السلام- المطاف أمام قوله للملك "اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم".. هذا درس عظيم من الدروس القرآنية يُقدمه لنا القرآن لنستوعب الحدث، ويعلمنا أن ما حدث هناك قديما سوف يتكرر ويحدث فى كل زمان ومكان. هنا؛ فى حاضرنا ومستقبلنا، فهل استوعبت الأمة الدرس، وأخذت العبرة مما حدث، أم أنها أخذت بمقاييس إخوة يوسف -عليه السلام- وجهالة قابيل الذى سوَّلت له نفسه قتل أخيه؟!

إنَّ سيدنا يوسف لم يطلب خزائن الأرض شهوة أو استعراضا، إنه يملك إيمانا قويًّا ويقينًا ثابتًا تجاوز به تحديات الزمن ومكر النساء وفتنتهن وحسنهن وجمالهن وخبث وكره وحسد وحقد إخوته وامرأة العزيز وما فعلته به، ودخوله إلى السجن وما وقع عليه من أذى نفسي وجسدي فماذا بقي فى نفسه من فتنة للدنيا أو شهوة لاعتلاء منصب أو الجلوس على كرسي؟! وما الذى سيضيفه ذلك الطلب إلى نفسه وذاته وشخصه؟ لقد خاض سيدنا يوسف عليه السلام معركة شرسة مع الشهوات والملذات؛ فاجتازها كلها وجميعها بامتياز، وتخطاها بصبر وإيمان وثبات؛ فالجمال والمال والملك وخزائن الأرض كلها لا تعني له شيئا أبدا، وإنما الشيء الذى يريده ويعنيه هو السير على خطى جده إبراهيم وجده إسحاق وأبيه يعقوب عليهم السلام جميعا، وأن تتحقق له الآية الكريمة "توفني مسلما وألحقني بالصلحين"؛ ذلك هو الهدف الأسمى والغاية العظمى من الطلب، وأن يلقى ربه وهو راض عنه وعن أفعاله وأعماله، وما ذلك الطلب الذى طلبه إلا ليكمل به مسيرة الرسالة والشرف والإيمان لعلمه وتفوقه والتخصص وقدرته على حفظ الأمانة والرقابة وحسن الإدراة والقدرة على الأداء والواجب والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وأن يجنب البلاد الحرب والمجاعة والقحط، ويحفظ خزائن الأرض من السرقة والغش والاختلاس وويلات التقشف والجوع والكفر والهلاك؛ لذلك لم تأتِ هذه القصة العظيمة فى القرآن جزافا أو تسلية وإنما جاءت للدروس المستفادة منها، ولكي يتَّعظ منها من يتعظ، وينشأ المجتمع المسلم على التربية والتوعية القرآنية، وأن تكون العبرة هي القياس الذى يقيس به المرء علمه وتجاربه التى يتميَّز بها حين تجتاح الغرائز والفتن شواطئه، ويكون الإيمان والصبر سلاحه، وحينها لم ولن يحتاج المسلم إلا لربه والاستعانة بخالقه ورازقه؛ لعلمه بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو القوي العزيز.

... إن سورة يوسف مليئة بالدروس والعبر، التي تبيِّن شدة المعاناة وقوة الإيمان والأمل والصبر، وكيف يتحقق النصر بعد اليأس واليسر بعد العسر، والفرج بعد الشدة، وكيف يتفوق من كان فى معية الله سبحانه وتعالى، وكيف ينتصر من ذاق حلاوة الإيمان والصبر.. هذه هي الحياة الدنيا؛ لابد فيها من خوض صراع الكرب والضيق والمحن والفتن والبلاء والابتلاء، ومواجهة قوى الظلم بالتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه، والتمسك بما أمرنا به، وصفوة البشر بالتأكيد هم من يقودون البشرية إلى طريق الفلاح والنصر؛ لأنَّ أهدافهم ليست البغي أوالبطش بالناس، أو الانتقام لمن خالف رأيهم وابتعد عن طريقهم، أو أراد هدايتهم إلى الحق والصراط المستقيم، بقدر ما هي رسالة للعمل بالمعروف والنهي عن المنكر، واتباع ما جاء به رسول الله سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلاف ذلك؛ فالنتائج التى تمر بها البشرية اليوم هي الشاهد والدليل على الخلل ومدى تأثيره الذى تشهده الإنسانية.

إنَّ إخوة يوسف -عليه السلام- قد دبَّ فى نفوسهم الحقد والغل والحسد وأرادوا التخلص من أخيهم الطفل البرئ ونسوا وتناسوا من هو بالنسبة لهم، إنها دوافع الحقد والغيرة والحسد كانت فوق طاقتهم وفوق أخوَّتهم، ونزعة الشر تجاوزت احتمالهم وقدرتهم، ولننظر إلى براءة سيدنا يوسف عليه السلام وهو ينزل إلى الجُبِّ، وإخوته غاب عنهم فى لحظة أنهم سيتخلصون منه وتنفيذ خطتهم المشؤومة؛ فاذا كانت هذه قلوب الإخوة، فكيف تكون قلوب الأعداء والخصوم، لكنها أقدار الله سبحانه وتعالى، تجري فى الكون بحكمته، وتتحرك بمشيئته سبحانه وتعالى، وتأتى النهاية وختام المشهد ليتحقَّق تأويل الرؤيا، وأنَّ الله سبحانه وتعالى مكَّن ليوسف -عليه السلام- فى الأرض، وإن شاء الله تعالى سوف يُمكن رب العالمين لعباده المؤمنين النصر، وما النصر إلا من عند الله.

تعليق عبر الفيس بوك