شهر الطعام والأرصدة "السماوية"

رحاب أبو هوشر

الصيام يحرض على صفاء الروح وشفافيتها، باعتباره كبحًا لرغبات الإنسان الجسدية والمادية، كالطعام والشراب والجنس وسواه، وضبطا لنوازع الجشع والقسوة. الصيام فلسفة لإعلاء شأن الروح والعقل، وتهذيب النفس وسلوكها، وتطهير للسان من قبح الكلام والألفاظ. عندما نصوم نحرم مما نشتهي، وهذا يستوجب تغيرا في الرؤية والأحاسيس الإنسانية، فنكون أكثر تواضعا، وأكثر اقترابا من صلصالنا الأول، وأعمق إيمانا واتصالا بالخالق جل جلاله.

أما معظم صائمي شهر رمضان، فلا صلة تربطهم بقيمه الحقيقية، مع اليوم الأول منه، تمتلئ المساجد برواد موسميين طارئين. إنهم الحريصون على مكاسب رمضان السماوية، طقوس وشعائر، صلوات تتضاعف ركعاتها لمضاعفة الثواب، لكنه الأداء الميكانيكي الذي لا يمس روحًا تبقى غليظة، وسلوكا معتادا يبقى متناقضا مع القيم القرآنية، والهاجس الوحيد هو انتظار ميعاد الإفطار لابتلاع الطعام. وليس الصيام في بعض منه لدى كثيرين، إلا رغبة بالاستمتاع بالحرمان، للاستمتاع والتلذذ بالأكل الوفير لا أكثر.

وهناك وصفة لزيادة رصيد الحسنات، تقتضي قضاء وقت العمل بقراءة القرآن، قراءة لا تتعدى إحصاء عدد الآيات والسور، للفوز بإتمام قراءة القرآن كله مع نهاية الشهر الفضيل. وكلي ثقة بأنّ معظم قارئي القرآن بتلك الطريقة، عدا عن كونهم لا يدركون تمامًا معنى ما يقرأون، فإنهم لا يجيدون القراءة والترتيل أيضاً.

وقراءة القرآن في رمضان تكاد تصل إلى مرتبة الفريضة، مما يبيح بل يوجب الهروب من العمل أو التوقف عنه، فالشهر الآن هو شهر شعائر وعبادة، وليذهب العمل والدراسة والواجبات إلى الجحيم، فهذه أشياء دنيوية لا قيمة لها في ميزان الحسنات، في وعيهم. ناهيك عن اختراع الكذبات الضرورية في مثل هذه الحالة، للتعبد، كيف تكون العبادة مع التواء أخلاقي، واحتيال على القيم القرآنية ذاتها، أية صفقة يبرمها مثل هؤلاء المتعبدون، وأية عبادة؟!

تجار ينتظرون حلول شهر الصوم، لاحتكار السلع الأساسية ورفع أسعارها، والتخلص من أغذية فاسدة أو على وشك انتهاء صلاحيتها، بتقديمها تبرعات للمحتاجين، سلوكهم هذا لا يمنعهم، ودون أيّ إحساس بالذنب أو الإثم، من التوجه للمساجد، لأداء الصلوات وتلاوة القرآن، ويبتهلون لله أن يديم عليهم نعم هذا الشهر الفضيل! في الصباح، يفتحون متاجرهم ليلهبوا الناس بأسعار ستجعل منهم محتاجين خلال بضعة سنين لعطاياه وصدقاته، التي سلبهم إياها في الصباح، ليطعمهم فتاتا مغموسا بالإذلال عند ساعة الإفطار.

إن كان المتصدقون مؤمنين حقًا، فهل تقتصر حاجة الفقيرعلى رمضان، أم أنه محتاج طوال العام وربما طول العمر؟ متصدقو رمضان لديهم حاجة ذاتية ملحة، للتخلص من الإحساس بالذنب وتحرير ضمائر محتجبة خلف مراوغات وأكاذيب، وإبهاج النفس بالهمس لها بصلاحها. وبعد انتهاء رمضان، يسقط في يد الفقراء، الذين لا يطرق بابهم أحد، بعد أن انتهى موسم حصاد الحسنات، وصار في جعبة كل متصدق رصيد يكفيه حتى رمضان المقبل.

ما نراه حولنا من وجوه الإحسان، يقوم في بعضه على مبدأ غسيل الضمائر والصورة الاجتماعية، تماما كغسيل الأموال. موضة "موائد الرحمن" وسباق إعلاناتها، ليس إلا استعراضاً لثراء ووجاهة المحسنين، وإذلالا للمحتاجين بوجبات طعام تتكدس يوميا، لكنها تحول المحتاجين والفقراء إلى مجرد جياع، لا فئة اجتماعية لها مطالب وحقوق.

والبعض ممن يقيمون الولائم للمحتاجين، غسيلا لذممهم التي أنهكتها القسوة طوال العام، يسلبون الفقير بهذه اليد، ثم يمنون عليه بصدقة باليد الأخرى. ولائم هي من أموال صنعت بعرق المحتاجين ذاتهم، وكدح الكادحين، لكنهم محسنون يعتقدون أن بإمكانهم كسب الدنيا والآخرة، فيظنون أنهم عقدوا صفقات أيضًا مع السماء، لكن "الله ينظر إلى قلوبكم"!

ولو كان الإحسان محض فعل خيّر، إذن لكان أولئك المحسنون أوجدوا حلولاً واقعية لمشكلة الفقر، وقدموا لأولئك المحتاجين مالاً بدل علب الطعام، أو وفروا لهم فرص عمل تحفظ كرامتهم الإنسانية، لكن كيف سيكون هناك كرنفال إحساني، يفيدهم في الدنيا والآخرة "في ظنهم"، إذا ما تحققت العدالة الاجتماعية وتلاشى الفقر؟!

بقاء الجوع والجياع مطلب للمحسنين والإحسان، فلو لم يبق جياع إذن لأصيب كثير من أصحاب "موائد الرحمن" بالإحباط، كيف كنا سنعلم حجم ثرواتهم؟ أو أنهم "فاعلو خير"، يقدمون أموالهم للمحتاجين! والأهم من كل ما سبق، من سيأتي إليهم محتاجا، ليصابوا بالعظمة والإحساس بالرفعة عن بقية المجتمع، وكيف سيختبرون لذة أن يكونوا محسنين؟ هم بأمس الحاجة لمثل هذه الأحاسيس التي تمنحهم إحساسا كاذبا بالطمأنينة والسلام، عندما يتوجه إليهم من ملأوا بطونهم "بالإحسان"، بالدعاء، فيغشاهم ذلك التواضع الكاذب. ينام مثل هذا المحسن قريرا هانئا، فها هو ملأ رصيده من جيوب الناس طوال العام، وها هو يملأ رصيده "السماوي" من جوعهم أيضا.

تعليق عبر الفيس بوك