في ذكرى محمد أركون

صالح البلوشي

يصادف الرابع عشر من سبتمبر المقبل الذكرى الخامسة لرحيل المفكر العربي محمد أركون (1928-2010)، أحد أبرز المفكرين العرب في القرن العشرين. وقد شغل الفكر الإسلامي اهتمام المفكر الراحل سنين طويلة، وألف فيه الكثير من الكتب والمقالات، إضافة إلى المحاضرات التي كان يلقيها في مختلف الجامعات والمراكز العلمية في مختلف دول العالم. كما تميز بأبحاثه الأركيولوجية العميقة في التراث الإسلامي التي ناقشت مختلف قضايا الفكر الإسلامي. وقد عرف الدكتور محمد اركون بمشروعه النقدي الرائد "نقد العقل الإسلامي" الذي أعلن عنه سنة 1984 بكتاب يحمل نفس هذا الاسم، ثم اضطر إلى تغييرعنوانه إلى "تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، وصدرت طبعته العربية في بيروت سنة 1986.

يقول أركون "إن مشروعي في نقد العقل الإسلامي يتمايز عن ما عداه في ما يخص هذه النقطة الاخيرة، فأنا أهدف إلى نقده بطريقة تاريخية وليس بطريقة تأملية تجريدية سكولاتيكية. إن مشروعي ينخرط أبستمولوجيّا في العمق بل وفي عمق العمق، ويختلف بالتالي عن كل مشاريع تاريخ الفكر التي لا تشمل هذه النقطة الاخيرة . "
يقول عنه المفكر اللبناني علي حرب في كتابه "الممنوع والممتنع": "الحق انني مذ اطلعت على أول أثر لأركون منقول إلى اللغة العربية وكان ذلك في نهاية السبعينات، أدركت أنني إزاء مثقف إسلامي بارز يكتب بلغة حديثة، ويفكر بطريقة جديدة مغايرة، تخرق أسوار الممنوع، وتطرق أبواب الممتنع. مذ قرأت نصه لأول مرة شعرت أنني إزاء خطاب مختلف عن الخطابات السائدة، جديد كل الجدة؛ إنْ في المصطلح والأداة، أو في المنهج والرؤية، أو في التوجه والرهان. منذ ذلك الحين وأنا أتابع أركون، أرجع إليه، واحتج به، أفيد من تنقيباته المثمرة واستمتع بعروضه الرائعة". ومن يطالع المشروع الأركوني في قراءة التراث يستغرب من قدرة هذا المفكر على استخدام المناهج النقدية الحديثة بطريقة تحليلية، فهو -مثلا- يعتمد على البحوث القرآنية والبحوث المتعلقة بالتراث الإسلامي، على المنهج البنيوي الألسني، إضافة إلى المنهج النقدي التاريخي والمنهج الانتروبولوجي، وغيرها من المناهج الأخرى، مما يجعل دراساته تخرج بنتائج جديدة ومختلفة عن القراءات التقليدية الأخرى والتي يسودها التكرار الممل سواء في المنهج أو في النتائج. وقد تعرض المشروع الأركوني لانتقادات كثيرة، انطلقت كثير منها من موقع أيديولوجي بحت اتهمت أركون باستغلال منهجيات العلوم الإنسانية الحديثة من أجل تفكيك المنظومة الدينية الإسلامية تحت دعاوى حرية البحث والفكر. كثيرٌ من تلك الإنتقادات جاءت تحت إدعاء أن تلك المناهج لا تصلح في نقد المفاهيم الإسلامية، لانها أدوات أنطلقت من البيئة الاوروبية وليس من اجتهادات المسلمين"، ولذلك وصفها علي حرب بأنها ما هي إلا "أشكال جديدة للتصنيفات القديمة إياها" (علي حرب- كتاب "مفهوم النص"). وقد دعا أركون في كتابه "من فيصل التفرقة إلى فصل المقال. . أين هو الفكر الإسلامي المعاصر": إلى إعادة قراءة التاريخ عن طريق تعليم أنتروبولوجية الاديان وقال: إنه "إذا أردنا تشكيل علم تاريخ جديد -بالفعل- للأديان فإنه ينبغي علينا أن نهتم بالأبعاد الثلاثة للمعرفة: اي المعرفة القائمة على الأسطورة والمعرفة التي ينتجها علم التاريخ النقدي ثم اخيرا المعرفة التي يؤمنها لنا النقد الفلسفي". ولذلك رأى أركون بأن "الثقافة الانتربولوجية هي وحدها القادرة على تحريرنا من العقبات الذهنية المتمثلة حتى الآن بالعقائد التقليدية أو بالمبادئ الأيديولوجية التي تريد احتكار السيطرة على "العلمنة" وعلى استخدامها". وقد وصف الأستاذ هاشم صالح -الذي تخصص في ترجمة وشرح كتب أركون- هذه الدعوة في مقال نشره في موقع أوان الإلكتروني تحت عنوان "محمد أركون ثورة فكرية في الإسلام" بأنها من أجل "الخروج من الحوارات الضيقة لتراثاتنا الخاصة التي ولدنا فيها أو تربينا عليها، لكي نتعرف على تراثات أخرى ونفهم الظاهرة الدينية من اوسع ابوابها". وقد لعب مصطلح (اللامفكر فيه) دورا كبيرا في أغلب مؤلفات ومقالات الدكتور محمد أركون، وكان يقصد به المسائل الفكرية والدينية التي لا يمكن للعقل المسلم في الوقت الحاضر التطرق إليها، أو حتى مجرد التفكير فيها؛ بسبب موانع مختلفة، سواء كانت معرفية أو سياسية أو اجتماعية أو دينية، أو خوفا من الرأي العام الذي يخضع وبشكل كبير للفقهاء ورجال الدين.

وفي كتابه المهم "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل" طرح المفكر الراحل إحدى أهم المسائل المطروحة في الفكر الإسلامي، وهي: مسألة المعتقد وتكوين الذات في السياقات الإسلامية، نظرا لما يحمله هذا المفهوم من اهمية في تكوين الذات الإسلامية، حيث يرى أركون: بأن مبادىء العقيدة الإيمانية المرسخة من قبل الارثوذوكسية الإسلامية لم تتعرض ـ مع الأسف الشديدـ لأي دراسة نقدية حتى الآن؛ بسبب القراءة الإيمانية التي ولدت نصوصا اعتقادية متعددة وذات مضامين تاريخية. ولذلك فانه يرى بضرورة ان تصبح تلك القراءة الإيمانية ـبتشعباتها اللاهوتية المختلفةـ مادة للفحص التاريخي النقدي، وانه يجب على المؤمنين أن لا يعترضوا على ذلك، تماما كما حدث في أوروبا في عصر التنوير؛ عندما خضعت القراءات الإيمانية لمنهجية النقد التاريخي، وأضرب مثالا هنا بالمنهجية النقدية التي اتبعها الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا على النصوص الإيمانية في كتابه المهم "رسالة في اللاهوت والسياسة". ولكن الملاحظ في المنهج الاركوني ـخلافا لما يرى بعض منتقديهـ أنه في الوقت الذي انتقد فيه القراءة التقديسية والتبجيلية للتراث الديني في معظم كتبه ومحاضراته، فانه لم يتبنَ بشكل كامل القراءة النقدية المحضة وإنما يرى بان " هناك إمكانية لقراءة ثالثة؛ وهذه القراءة تستوعب المكتسبات أو المقتضيات الاكثر خصوبة للقراءة التاريخية والانتربولوجية والالسنية الحديثة، كما وتستوعب في ذات الوقت ممارسات القراءة الإيمانية ومنتجاتها ولكن بعد اتخاذها كمادة للدراسة من قبل علم التاريخ الثقافي والاجتماعي."

تعليق عبر الفيس بوك